وقال أصحاب أبي حنيفة: لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس، إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإذا رفع إلى القاضي: أمر المحتكر ببيع ما فضل من قوته وقوت أهله على اعتبار السعر في ذلك، ونهاه عن الاحتكار، فإن أبى حبسه وعزره على مقتضى رأيه؛ زجرا له، ودفعا للضرر عن الناس. قالوا: فإن تعدى أرباب الطعام، وتجاوزوا القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير سعره حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة، وهذا على أصل أبي حنيفة ظاهر، حيث لا يرى الحجر على الحر، ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره عليه.
قالوا: وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه؟ فعلى الخلاف المعروف في بيع مال المدين، وقيل: يبيع هاهنا بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام، والسعر لما غلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه التسعير فامتنع، لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كان يبيع الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، ولكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، أي: أن يكون له سمسارا، وقال: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (١) » فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة؛ لأنه إذا توكل له- مع خبرته بحاجة الناس- أغلى الثمن على المشتري فنهاه عن التوكل له، مع أن جنس الوكالة مباح؛ لما في ذلك من زيادة السعر على الناس، ونهى عن تلقي الجلب، وجعل للبائع إذا هبط السوق الخيار؛ ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع هنا، فإذا لم يكن قد
(١) سنن الترمذي البيوع (١٢٢٣) ، سنن النسائي البيوع (٤٤٩٥) ، سنن أبو داود البيوع (٣٤٤٢) ، سنن ابن ماجه التجارات (٢١٧٦) .