وقد قرر العلماء أن المصالح العامة إذا كانت تناسب حكما شرعيا فإن ذلك الحكم الذي تناسبه يثبت للعمل الذي يحقق المصلحة العامة، اعتبارا بهذا الوصف المناسب للحكم، ولهم في ذلك سلف عظيم، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فقد جمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن في صحف بعد موقعة اليمامة؛ خوفا من ضياعه بقتل القراء ولم يكن ذلك من قبل أبي بكر.
وقد نسخ عثمان بن عفان من هذه الصحف أربعة مصاحف ووزعها على الأقطار، وأمر بحرق كل صحيفة تخالف الصحف؛ منعا لاختلاف الناس في القرآن.
ولعمر بن الخطاب من ذلك الكثير لإثبات الحكم الشرعي للعمل الذي يحقق المصلحة العامة فهو الذي أنشأ الدواوين، وأنشأ البريد، بل قد أسقط عمر سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، مع أنها صنف من الأصناف الثمانية الذين تصرف لهم الزكاة؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه رأى أن هذا الصنف كان يأخذ من الزكاة مراعاة لمصلحة المسلمين إذ كان فيهم ضعف، وكانوا في حاجة إلى تألف هذا الصنف، ولكن لما قويت شوكة المسلمين ولم يصيروا في حاجة إلى تأليف هؤلاء، رأى عمر رضي الله عنه - وهو البصير بأمر المسلمين ألا مصلحة في إعطاء هذا الصنف من الزكاة، بل المصلحة في منعهم لئلا يظن بالمسلمين الضعف. كذلك أسقط عمر أيضا حد السرقة عن السارق عام المجاعة؛ لأن المجاعة لما اشتدت ربما تكون هي التي دفعت تحت تأثير العوامل الطبيعية إلى السرقة؛