وتلقاه عنهم الألوف من المؤمنين، وتسلسل ذلك جيلا بعد جيل. وقد أحسن التابعون وتابعوهم وأئمة العلم في اتباع الصحابة في رسم المصحف وعدم تجويز كتابته بما استحدث الناس من فن الرسم، وإن كان أرقى مما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنه صنعة ترتقي بارتقاء المدنية، إذ لو فعلوا لجاز أن يحدث اشتباه في بعض الكلمات باختلاف رسمها وجهل أصلها. فالاتباع في رسم المصحف يفيد مزيد ثقة واطمئنان في حفظه كما هو يبعد الشبهات أن تحوم حوله، وفيه فائدة أخرى وهي حفظ شيء من تاريخ الملة وسلف الأمة كما هو.
نعم، إن تغير الرسم واختلاف الإملاء يجعل قراءة المصحف على وجه الصواب خاصة بمن يتلقاه عن القراء؛ ولذلك أحدثوا فيه النقط والشكل وهي زيادة لا تمنع معرفة الأصل على ما كان عليه في عهد الصحابة. ثم إنه يجعل تعليم الصغار عسرا؛ ولذلك أفتى الإمام مالك بجواز كتابة الألواح ومصاحف التعليم بالرسم المعتاد كما نقل.
قال علم الدين السخاوي في شرحه لعقيلة الشاطبي: قال أشهب - رحمه الله -: سئل مالك رضي الله عنه أرأيت من استكتبته مصحفا أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم؟
فقال: لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى. قال مالك: ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن، فأقول له: أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها، وأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان والألواح فلا أرى بأسا. ثم قال أشهب: والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها