ملومون؛ لأنهم جميعًا نووا وهمُّوا أن ينفوا ما نووا، والتلاوم هنا ليس هو الاختلاف الذميم، ولكنه من الإحساس الكريم؛ إذ إنَّهم أحسوا بأن عبء المعصية كاملًا ينوء بكل واحد منهم، فيريد أن يلقي جزءًا منه على صاحب له، وإن اتفاقهم لا يجيء من غير داعٍ منهم، فإذا كان أوسطهم دعاهم إلى الخير ولم يستجيبوا فقد وجد منهم من دعا إلى الشر واستجابوا له، وكان شرهم متعدد الأطراف، فكان كل منهم قد دعا إلى ناحية دون الأخرى، وهنا نجد أن التعبير بالتلاوم لا يدل على الفرقة والانقسام، بل إنَّه في هذا لا ينافي الالتئام.
وإنهم ينتهون من هذا التلاوم الذي ابتدأ بالألم من عبء المعصية، ينتهون بعد التلاوم لفرط إحساسهم بالندم إلى أن يقولوا:{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} كان الإقرار بالذنب في هذه المرة أقوى من الإقرار أولًا؛ لأنهم أحسُّوا بالهلاك الشديد ينزل بهم، قالوا منادين الويل:{يَا وَيْلَنَا} ، أي: أيها الويل النازل باستحقاق أقبل، فإن ذلك وقتك، ونحن موضعه، ولا نتزايل عنه ولا نخرج، وعلَّلوا الويل الذي يستحقونه بأنهم كانوا طاغين، والطغيان دائمًا يؤدي إلى الظلم، فإن كانوا في الآية السابقة قد اعترفوا بالظلم، ففي هذا النص السامي اعترفوا بسببه وهو الطغيان، والطغيان يتبدئ من وقت أن يحسّ الشخص بأنه استغنى عن معونة غيره، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: ٦، ٧] ، وقد ظنوا أنهم لا يحتاجون إلى معونة أحد، وأن الله لا يمنعهم خيرًا أوتوه، وأن الأرض أرضهم والعمل عملهم، والكسب كسبهم وحسبوا أن الثمرات آتية لا محالة.
بعد ذلك اتجهوا خاضعين إلى ربهم، معتقدين أنَّ الخير بيده، وأن لا سلطان إلا سلطانه، فاتجهوا بالرجاء بعد أن رأوا المنع جهارًا نهارًا، وقالوا راجين:{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} هنا كان التفويض كاملًا، وإن ذلك النص الكريم يفيد في تفويضهم ثلاثة أمور في أجمل تعبير من الله تعالى عن ضمائرهم الخائفة، بعد أن خلعوا رداء الطغيان:
أولها: الرجاء، والرجاء يتضمَّن معنى التفويض من ناحية أنَّهم لا يرجون إلَّا من الله، ومن ناحية أنَّ كل ما يكون من الله تعالى خير، فإذا كان نزل بهم ما يكرهون فعسى أن يكون الخير في هذا الحرمان، كما قال تعالى:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}[النساء: ١٩] ، ومن الخير أن هذبت نفوسهم، وإذا كان حالهم من قبل حال طغيان وغرور، فعسى أن يعطيهم الله تعالى بديلًا لما منعوه، ويكون معه الاطمئنان.
ثانيها: الاتجاه إلى الله تعالى مالك أمورهم ومربيهم، والكالئ لهم والحامي، والشعور بالمساواة مع المساكين في ربوبية الله الخالق لكل شيء.