للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فكان لا بُدَّ لكي يدركوا صالح أمورهم أن يؤمنوا بالله وأن يذكروه في أعمالهم ظاهرة وباطنة، فهم لا ينقصهم الجد في العمل، ولكن ينقصهم الإيمان، فقال لهم: {لَوْلَا تُسَبِّحُون} أي: هل تسبحون وتنزهون الله تعالى وتقدسونه، وتعلمون أنه القاهر فوق كل شيء، وأنه العليم الحكيم، وهنا كان فيما حكاه الله تعالى بالتعبير: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} الاستفهام الداخل على النفي في معنى الإثبات؛ لأن نفي النفي إثبات، وهو يدل على التوبيخ، وتذكيرهم بأنهم لم يفعوا ما فعلوا فاقدين للمنبه المرشد، فقد أرشدهم إلى الطريقة المثلى والمنهاج الأسلم، وهو الإيمان بالله تعالى وتقديسه وتنزيهه، والإحساس بأنه الغالب على كل شيء، القاهر فوق عباده.

٦٤- إن المفاجأة مع التذكير، ووجود الضمير والنفس اللوامة من شأنها أن تحيي موات القلوب، وخصوصًا أنه وجد من بينهم من ربط بين الحرمان الذي فوجئوا به والضلال الذي كان من نسيان ربهم، وحرصهم وطمعهم، وتفاهمهم على حرمان الضعيف مما أخرج الله تعالى من الأرض، كان ذلك كله سبيل الهداية التي تجيء، ومن القارعة التي تقرع الحسّ والنفس تنبهوا فعلموا ما ينقصهم، وأنهم لهجوا في الدنيا، ولم يذكروا الله تعالى خالق السماوات، فقالوا فيما حكى الله تعالى عنهم: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .

بعد أن تنبهوا من غفتلهم، واستأنسوا بالحق من تذكير أمثلهم طريقة استجابت نفوسهم لداعيه، وعلموا أمرين: علموا أنهم كانوا غافلين عن ربهم، وعلموا أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس فيما تخافتوا به، قالوا في إعلان إيمانهم بالله: {سُبْحَانَ رَبِّنَا} نقدِّس وننزِّه ونسلِّم أمورنا لربنا الذي خلقنا وربَّانا وهو الحي القيوم القائم على كل شيء، فرجعوا بذلك إلى الله تعالى خالق كل شيء، ولكنه لا يكون الرجوع كاملًا إلا إذا تابوا توبة نصوحًا، وأحسنوا التوبة، وأول طريقة للتوبة هو الإقرار بالذنب، إقرار من يحس بذل المعصية، وذل الذنب قربة، كما يقول ابن عطاء الله السكندري: "إن معصية أورثت ذلًّا خير من طاعة أورثت دلًّا" ولهذا الإحساس بالذنب، قالوا مؤكدين القول: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين} لقد ظلموا أنفسهم بطمعهم وحرصهم، ونسيان ربهم، وظلموا الناس بمنع الفقراء من حقهم، وإن الإحساس بألم المعصية من شأنه أن يجعل كل واحد يلقي تبعة التقصير أو التنبه على غيره، فهم كانوا مجتمعين على طمعهم وحرصهم وتعجلهم، ولكنهم بعد أن أحسوا بجرمهم أخذ كل واحد يتبرأ من أنَّه الذي ابتدأ بالدعوة بالمعصية، وأن الآخر هو الذي دعا فأجاب، ولذا قال الله تعالى حكاية عنهم بعد أن دخل الإيمان قلوبهم وأشربوا حبه: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُون} كل واحد منهم يلقي على الآخر لومًا، لا كل اللوم، فإنهم جميعًا

<<  <   >  >>