للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا تصوير لا تعرف اللغات تصويرًا للحرص والتعجل والاستيثاق بالإيمان وعدم التردد فيما يعملون، ونية السوء، والتخافت فيها مثله، ولو اجتمعت الإنس والجن أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.

٦٣- ولكن الآيات الكريمات بعد تصوير حالهم هذه في التعجل والحرص، لتصوير المفاجأة، وتنبيه المفاجأة للغافل، وإيقاظها للضمير النائم، وإثارتها للوجدان الساهي، فيقول سبحانه في رؤيتهم لتهدُّم ما بنوا عيه إشباع طمعهم، وما حملهم على نية البشر، فقال تعالت كلماته: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} .

كانت المفاجأة بمقدار الحرص والطمع، واسترسالهم في المطامع المادية حتى استأثروا بها ولم يعطوا منها حق الفقير المسكين والسائل والمحروم، وإذا كان حرصهم بلغ أقصاه، فالمفاجأة بالحرمان كانت أشدَّ وقعًا، أصابتهم بالحيرة الشديدة، والضلال البعيد، وأوّل الضلال أنهم توهَّموا غير أرضهم، فلمَّا استيقنوا أحسّوا بضلال آخر معنوي أشدَّ فتكًا في النفوس وتأثيرًا في القلوب، وهو إحساسهم بالضلال المعنوي إذ قدروا، ولم يدركوا تقدير الله، وحسبوا أن الأمر إليهم وحدهم، والله فوقهم، فلمَّا أدركوا ضلال تفكيرهم قرروا الحقيقة الثانية، وهي أنَّ الله تعالى قدّر حرمانهم، وما قدره نافذ لا محالة، ولذا قالوا كما حكى الله عنهم مؤكدين: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون} ، فالإضراب معناه هنا: إنهم ترقوا من حال الضلال المؤكد إلى حال الإيمان بالحرمان المؤكد.

وإن قوله تعالى عنهم: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُون} بعد {إِنَّا لَضَالُّونَ} فيه إشارة واضحة إلى الأسف والألم المرير؛ ألم الضلال والحرمان من الهداية، ثم الحرمان المطق من الثمرات التي طمعوا فيه، وتخافتوا على ألَّا يعطوا الفقير.

وإذا كانوا قد اجتمعوا على ما كان منهم أولًا، فقد اجتمعوا على المفاجأة والحرمان ثانيًا، ولكن يظهر أنَّ الشر لا يمكن الإجماع عليه دائمًا، بل لا بُدَّ من قائم لله تعالى بحجة، وإذا لم يستمع له قول ابتداء فإنَّ قوله سيكون له صدى في النتيجة بعد أن تتبدى الأمور وتنجلى.

وكذلك كانت حال أصحاب الجنة، فقد كان فيهم رشيد ينبههم إلى خطأ ما أزمعوا أن يفعلوه، وقد حكاه الله -سبحانه وتعالى- بقوله: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} .

الوسط هو الأمثل، والوسط في أوصاف الخير هو الأمثل دائمًا، ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: ١٤٣] ، وهذا الأمثل عندما رأى حالهم وتدبيرهم وطمعهم، وما يسرون به وما يجهرون، وما يتخافتون وما يعلنون، لاحظ

<<  <   >  >>