للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المصروم ثمرها المقطوع منها ما أينعت، وهذا بلا شك تصوير بَيِّنٌ لما يجريه الله تعالى في الأرزاق، ومهما يقدّر الإنسان في كسب الرزق ويحاول التحكم فيه فإنَّ الله تعالى فوق ما يقدّر.

ونرى من هذا تصوير ما في نفوسهم، وبيان ما يحيط بهم في بيان متماسك في ألفاظه، متآخٍ في معانيه.

٦٢- ولقد صوَّر -سبحانه وتعالى- صورة الحرص ومنع الخير في أعنف صوره النفسية، فقال تعالت كلماته: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} .

أنزل الله بالحديقة ما أنزل وهم لا يعلمون، فكان حرصهم على ما هو عليه، وتعجلهم لجني الثمار كما هو، وقد صور الله تعالى ذلك بذكر حالهم أنهم تنادوا، أي: نادى بعضهم بعضًا مجمعين على ما أرادوا، أن أصبحو في الغد مبكرين على زرعكم وثماركم الذي حرثتم أرضه، وأصلحتم ثمره، إن كنتم تريدزن قطعه وقطف ينعه. ويلاحظ أن التعبير بصارمين فيه معنى الإرادة الصارمة للقطع الذي لا ريب فيه.

وإن معنى التعجل والحرص قد أكد بقوله تعالى حكاية عنهم: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} هذه النصوص تصور اجتماعًا وافتراقًا، فقد اجتمعوا على نية القطع، واجتمعوا على المسارعة فيه، واجتمعوا على أمر خبيث لم يعلنوه، ولكن اتفقوا عليه في تخافت وإسرار، واجتماع على تلك النية الخبيثة، وإن كلمة يتخافتون تصوير لحالهم الحسي ولأمرهم النفسي، ولمعنى المنع، فإنَّ الامتناع عن الخير لا يكون إلا بإصرار النفوس والتفاهم في سرٍّ، ولا يكون في جهر، فتخافتوا على ألَّا يعطوا مسكينًا، وعبَّر عن المنع عن إعطاء المسكين بمنعه من الدخول، فهم لا يمنعون العطاء فقط، بل يمنعونه من الدخول نهيًا مؤكدًا وبإصرارٍ على المنع، ولو بالدفع أو القهر، فضلًا عن الطردِ والنهر، وإغلاق الأبواب وإقامة الحراس المانعين، أكَّدوا تنفيذ فكرتهم بما حكى الله عنهم من تأكيد المنع بالنون الثقيلة، هذه أحوال اجتماعهم، أمَّا افتراقهم فهو دخولهم على الحديقة، متفرقين كلٌّ في جانب منها، ودلَّ على ذلك قوله: {فَانْطَلَقُوا} فهم ذهبوا ليقطعوا ويجمعوا، كلٌّ في جانبٍ تجمعهم فكرة التعجل والتصميم والإلحاق في منع المساكين، وقال تعالى في تصوير تعجُّلهم مع سيطرة فكرة المنع عليهم {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِين} ، فغدوا معناها أقدموا في باكورة الغداة، والحرص معناها المنع والتشدد فيه، والمعنى: إنهم أصبحوا قاصدين القطع، ومعتزمين المنع من حق الفقير، بل منع دخوله، وموضع قادرين هنا هو وصفهم بالقوة على العمل والتنفيذ والمنع بكل الوسائل.

<<  <   >  >>