للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عاقبته أن حُرِ َم مما طغى به، وصار يوم القيامة أمام الجزاء الأليم، بيد أنَّ أولئك أصحاب الجنة وهي الحديقة المثمرة، كانت لديهم فرصة الرجاء بعد الندم، أما هؤلاء فقد فاتت فرصة الرجاء ولات حين مناص، ولنذكر بعد ذلك ما نستطيع الإشارة إليه من النواحي البيانية.

٦١- الصورة الأولى: صورة الطمع المتغلغل في النفس الذي ينسيها كل شيء ما عدا ما تطمع به النفس، فقد قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ} .

اختبرهم الله تعالى بالطمع كما اختبر أصحاب البستان المثمر، ونرى التشبيه هو ما يسمَّى التشبيه التمثيلي، وهو تشبيه حال الطاغين المعتدين أنْ رأوهم استغنوا؛ لأنهم ذو مال وبنين، فغلبهم الطمع، حتى أوبأهم في أسوأ الأحوال، والعناد مع الله تعالى، بحال أهل الحديقة إذ غرَّهم الغرور، فظنوا أنهم واصلون إلى ما يبتغون، وأقسموا على ذلك غير مقدِّرين عاقبة ولا حسابًا لم يأتي به الله تعالى، والتشبيه بلا ريب للتقريب، لا للمساواة؛ لأنَّ حال الكفار أشد عتوًّا وأبلغ غرورًا، وهكذا كل تشبيهات حال القيامة وما وراءها بحال ما يقع، ليس للتساوي، أو لأن المشبه به أبلغ في وجه الشبه، ولكن لتقريب الغائب بتصويره بالحاضر، ومثل ذلك تصوير المعنويات بالمحسوسات، وما يكون من جزاء وعقاب هو من المحسوسات، ولكنه غائب.

وهنا في النص نجد تصوير النفس الطامعة؛ إذ إنها لشدة رغبتها تتصور محل الطمع واقعًا لا محالة، لذلك أقسموا جاهدين في قسمهم ليصرمنها، أي: ليقطعنُّها قطعًا يستأصلونها من أدناها، وهذا اللفظ في هذا المقام أبلغ من القطع؛ لأنَّ الصرم قطع من الجذور، أي: هو قريب من القلع، ولتصورهم استجابة لطمعهم أنهم واصلون أكدوا الصرم باللام ونون التوكيد الثقيلة، ولشدة الطمع م يتوقعوا تخلفًا قط، ولذلك لم يستثنوا، فلم يقولوا: إن شاء الله، أولًا؛ لأنَّ حرصهم ورغبتهم الجامحة أنستهم الله تعالى؛ ولأن تطلعهم إلى ما تهوى أنفسهم لم يجعل لاحتمال التخلف موضعًا في عقولهم، وكانت اللهفة والحرص على التنفيذ قد جعلاهم معجلين التنفيذ، فهم يبكرون به مصبحين غير متلبثين ولا متأخرين؛ لأن القطع أمر محبوب لا يرون معه إبطاء ولا تريثًا، بل يستعجلون ما يريدون، بل ما يهوون.

وقد صوَّر الله -سبحانه وتعالى- غفلتهم عمَّا يقدره الله تعالى، مع أنه متحقق، فهم يقدرون ويرغبون ويستعجلون، والله من ورائهم محيط، وقد صوَّرَت الآية الكريمة قدر الله تعالى بقوله تعالت كلماته: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} ، الطائف العارض الذي يعرض ليلًا من ريح صرصر عاتية، أو عواطف تقتلع الأشجار وتلقي بالثمار، وهذا الطائف بأمر الله تعالى، فكل شيء في الوجود بإرادة الله تعالى القدير، والصريم الأخشاب المتراكمة، أو الأشجار القائمة

<<  <   >  >>