وإنه يذكر أن ألفاظ القرآن مختارة تدلّ على أدق معانيها، فمثلًا ذكر عن إخوة يوسف -عليه السلام- أنهم قالوا: أكله الذئب، ولم يقولوا: افترسه؛ لأنهم لو قالوا افترسه لطالبهم ببعض أثره، والأكل إفناء الجسم في جسم.
وإنَّ الخطابي ليقول في بحثه القيم:"اعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأنه جاء بأفصح ألفاظٍ في أحسن نظوم التأليف، مضمِّنًا أصحَّ المعاني من توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته، من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء منها في موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق منه".
وإذا كانت ألفاظ القرآن ومعانيه لها ذلك المكان الأسمى الذي لا يمكن أن يناهد إلى سمائه إنسان أو جن، شرقي أو غربي، فإنَّ في القرآن مع جمال الألفاظ ورونق الأسلوب، خاصة لا يصل إليها أحد في الألفاظ والأسلوب والمعاني.
وقد قسَّم الخطابي الكلام البليغ إلى أجناس ثلاثة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية، "فمنها: البليغ الرصين الجزل، ومنها: الفصيح القريب السهل، ومنها: الجائز الطلق السلس، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه ألبتة".
وإنَّ هذا الكلام لا يمكن أن يمر من غير أن نبدي عليه ملاحظة لاحظناها، أنه يفرض أنَّ الكلام البليغ يتفاوت بتفاوته في الجزالة والسلاسة والسهولة، وهذا يوهم أنَّ القرآن الكريم تتفاوت بلاغته، وهذا الزعم باطل، فالقرآن كله رتبة واحدة في البلاغة، في المنزلة التي لا يمكن أن يسمو إليها بليغ؛ لأن البلاغة أن يكون الكلام موافقًا لمقتضى الحال، فالعبارات الجزلة القوية تكون في موضع الإنذار، والعبارات السهلة غير المسترسلة تكون في التبشير، والعبارات المسترسلة في مواضع التنبيه إلى وجوب التفكير والتدبر، وكل بليغ في موضعه، ولا يختار سواه، فلا تكون عبارات الإنذار كعبارات التبشير، ولا تكون عبارات الدعوة إلى التأمل كعبارات التهديد والتخويف، هذه ملاحظة أبديناها على عبارة الخطابي، وكان حقًّا علينا أن نبديها، فلا نجعلها تمرُّ بغير تعليق.
وإنَّ الخطابي قد بيِّنَ أن القرآن الكريم قد اشتمل على الأجناس الثلاثة في عبارات قيمة حازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد كالمتضادين؛ لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة في الكلام تعالجان نوعًا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه