مع نبوغ كل واحدٍ منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسَّرها الله بلطيف قدرته مع أمره؛ ليكون آية بينة ودلالة على صحَّة ما دعا إليه من أمور دينية، وإنما تعذَّر على البشر الإتيان بمثله لأسباب؛ منها: إنَّ علمهم بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها غير كامل، ولا تدرك أفهامهم جميع وجوه النظم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلون باختبار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله.، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى قائم، ورباط لهما ناظم.
وإنَّا نوافق الخطابي في أنَّ قدرة البلغاء من الناس على الإتيان بمثل القرآن من أسبابه نقص علمهم باللغة، جزلها وسهلها، وعدم علمهم بالمعاني، وأنَّى يكون علمهم بجوار علم الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علمًا.
ونقول من ناحية ثانية: إن البلغاء من الناس يختلفون جزالة وسهولة واسترسالًا، تبعًا لطبائعهم وبيئاتهم، وما يتجهون إليه، فالفرزدق كان يميل إلى اختيار الألفاظ القوية أو الحوشية، ويقتحم بذلك الوعر من القول، وقالوا: إنه كان يحاول أن ينهج نهج البدويين من الجاهلين، وجرير يتخيِّر السهل العذب من الألفاظ، وكذلك كان الأمر في شعراء الجاهلية؛ فامرؤ القيس كان يتخيِّر الوعر الجزل من الألفاظ، وهو يقيم في الصحراء العربية، ولانت ألفاظه لمَّا كرثته الكوارث، ورحل إلى أنقرة، وهكذا ... فكان من البلغاء من البشر من غلبت عليهم عذوبة الألفاظ، ومنهم من غلبت عليهم جزالتها وقوتها، بل وعورتها، ويختلف الرجل الواحد باختلاف حاله، وتغير البيئات عليه.
هذا في بلاغة البشر، أمَّا القرآن فبلاغته من عند الله خالق كل شيء، القادر على كل شيء، والخالق للناس وبيئاتهم، فكان في كلامه المبين، كل أجناس القول ومناهج البيان بلا تفاوت في البلاغة القرآنية، وإن اختلفت ألوان الألفاظ وأجناسها بين جزل قوي وعذب سهل، وكلام مرسل ينساب في النفس أنسياب النمير، وكل من موضعه.