وفي هذه النصوص السامية المعجزة المحكمة نجد القرآن الكريم يذكر بني إسرائيل بأنَّ الله تعالى خصَّهم بنِعَم لم يعطها غيرهم، وأنَّه فضلهم في عصرهم بأن جعل منهم الذين يقاومون طاغوتًا من أعظم طواغيت الأرض، وخصَّهم بكثرة المعجزات التي تجري على أيدي نبيهم الذي هو من أولي العزم من الرسل، وأنه سبحانه جعل من ذرية يعقوب أبيهم أنبياء كثيرين ومرسلين، ومع هذه النِّعَم المتضافرة، والآيات المتكاثرة، يكفرون بالنعمة ويبطرون معيشتهم، ويتخذون تفضيل الله لهم تفضيلًا نسبيًّا في عصرهم ذريعة للكفر بالنعمة لا لشكرها، وأنَّ الله قد أخذ عليهم الميثاق ألَّا يعبدوا غيره ولا يؤمنوا إلّا به، ولكن نفوسهم التي مردت على التقليد والخنوع للقوي سوَّلت لهم أن يعبدوا العجل، كما كان يعبده المصريون، وفعلوا ذلك تقليدًا وخضوعًا للأهواء، وتركوا وراءهم ظهريًّا أوامر الله تعالى الذي أنقذهم من ظلم فرعون، الذي كان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم. ويأمرهم الله تعالى بأن يدخلوا متطامنين خاضعين، فيحرّفون كلام الله تعالى عن مواضعه، ويمنُّ الله تعالى عليهم بخيرالطعام وأطيبه، فيأخذهم الإلف إلى ما دونه، ويستبلدون الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأنهم خاضعون لأهوائهم غير مستطيبين لرزق ربهم، ويرون المعجزة نهارًا، وينعمون بها؛ إذ يطلبون الماء فلا يجدونه، فيأمر الله نبيه موسى الكليم بأن يضرب الحجر بالعصا، فينبعث اثنتا عشرة عينًا، ويكون لفرقهم الأثنى عشرة مشاربهم {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[البقرة: ٦٠] .
ومع هذا النعم المتوالية والآيات البينات الباهرة يأمرهم الله تعالى بالطاعات، ويأخذ عليهم الميثاق بأن يرفع عليهم الطور حتى يصير كأنَّه فوقهم تأكيدًا للميثاق بالآية التي اقترنت به، ومع ذلك لا يطيعون عامدين؛ إذ يتولَّوْن معرضين عن ذلك البيان الموثق؛ لأنهم قد طبعوا على الجحود، وكانوا مضرب المثل فيه، وإذا كانت الآيات قد تضافرت بالبيان عليهم، فإنَّ الله تعالى جعل فيهم ومنهم آية بينة تدل على أن الجحود لا ينشأ عن نقص الدليل، بل يكون مع تضافر البينات، فتزيدهم الآيات كفرًا وعنادًا.