وثانيها: إنَّ ضعفهم أفقدهم قوة الإيمان، والشك في حكم الديَّان، حتى إنهم ليقولون لموسى -عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. وذلك تهكُّم يدل على وَهَن إيمانهم، كما وهنت نفوسهم.
وثالثها: إنَّ الأمم لا تتربَّى إلَّا بتعوّد خشونة العيش، كما تعوَّدت نعومته، وأن تذوق جشبه كما ذاقت حلاوته، ولذلك بَيِّنَ الله -سبحانه وتعالى- أنه لا يمكن أن يدخلوا الأرض المقدَّسة التي كتب الله تعالى عليهم أن يدخلوها، فقال سبحانه:{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} .
وهذا كما يبدو من الآية تحريم كوني، أي: إنَّه لا يمكن أن يستطيعوا الدخول إلى الأرض المقدسة مقاتلين مجاهدين إلَّا بعد أن يذهب عنهم ذل الوهن، ويأتي جيل جديد قد ذاق طعم الشدة، وعلم الحياة نضالًا، ولم يعلمها استكانة وضعفًا، والتقدير بالأربعين لا أحسب أنه يقصد به العدد، ولكن يقصد به الكثرة التي تنشئ جيلًا تربَّى في شظف العيش وصلابة الحياة وقسوتها.
ولقد أخذ هذه الحقيقة القرآنية ابن خلدون، وجعل أساس قوة الأمم شدة الحياة وصلابتها، فإنها إذا استرخت أدال الله منها بقوم أولي بأس شديد تربَّوا في البداوة، وذاقوا بأسها.