الشجرة الوارفة في وسط الصحراء، ويجد الحياة الزوجية وراحة الحياة بعد شقائها، ويذوق طعم الدنيا، ولم يكن في بيت فرعون يذوقها، ذلك أنَّ النعيم معنى نسبي لا يذوقه إلا من ذاق الألم في هذه الدنيا، والنعيم من غير ألم يرنقه يكون راحة عفنة، فموسى -عليه السلام- بعد أن نال عيشه بالكدِّ واللغوب، وعاش بين الرجاء والخوف أحسَّ بطعم الحياة ومعناها، وتأهَّب للرسالة؛ لأن الرسالة لا تكون إلَّا لمن اصطفاهم الله تعالى ممن ذاقوا طعم الحاجة وعزة الحق، ولم يترفوا بالنعيم، وكذلك أمر النبيين والصديقين، وكذلك كان تاريخ كل الأنبياء، وخصوصًا أولي العزم من الرسل.
هذا، وإنَّا نطالب القارئ أن يقرأ أيّ جزء من قصة موسى، فإنك تراه مصورًا للموقف الذي يعرض له أبدع تصوير؛ وكأنك تشاهد، ولا تسمع وتتلو، وإنه لهو القصص الحق.
٩٠- وإنك إذا قرأت مجادلة المشركين مع نبي من الأنبياء، كنوح وإبراهيم وعيسى وشعيب وهود، تحسّ بأنك تشاهد مشهدًا مرئيّا، لا أنك تستمع إلى كلام متلوّ، فتنتقل أنت وعقلك وجوارحك كلها إلى هذا المشهد الكريم الذي يصور عقلية الذين يجالدون، وما يبذله الرسول، وما يتحمّله في سبيل إقناعهم أو إلزامهم كلمة التقوى، ولا يريدونها، اقرأ مجادلة نوح -عليه السلام- لقومه، وهم يجادلون في الله، ونوح يريد أن يهديهم بأمر الله تعالى، واتل قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ، قَالَ يَا قَوْم أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ، وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين}[هود: ٢٥-٣٣] .
هذا مشهد من مشاهد القول تجد فيه مناقشة قوية بين دعوة الحق، وجحود أهل الباطل، وتراه كأنَّه مصور أمام البصيرة، وترى فيه صاحب الحق يدلي بالبينات، والحق وحده أبلج، وترى فيه أهل الباطل يتخذون من الحس دليلًا على الحق، وحسهم