أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} والنفي بصيغة هذا الاستفهام فيه مبالغة؛ لأنَّ فيه إشارة إلى أنَّه لا يسوغ لعاقل أن يكون منه ذلك التحريم؛ لأنه عمل غير معقول في ذاته؛ إذ المؤدَّى: لا أحد حرم زينة الله من لباس ساتر، ولا أحد يحرم طيبات الرزق التي لا خبث فيها من حيث الحقيقة، ولا من حيث المعنى، ما دام طريق الكسب طيبًا، وأنَّ الله لا يأمر إلّا بالقسط الذي يتفق مع الفطرة، ولذا قال تعالى من بعد ذلك:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: ٣٣] .
٩٤- وقد ذكر عبد القاهر في كتابه "دلائل الإعجاز" الحكمة في سبب تسمية الاستفهام بالإنكاري، سواء أكان لإنكار الوقوع بمعنى النفي، أم لإنكار الواقع بمعنى التوبيخ، فقال -رضي الله تعالى عنه:
"وأعلم أننا وإن كنا نفسِّر الاستفهام في مثل هذا الإنكار بالنفي، فإن الذي هو محض المعنى أنَّه ليتبين السامع حتى يرجع إلى نفسه، فيخجل ويرتدع، ويبين الجواب إما لأنه قد ادَّعى القدرة على ما فعل ما لا يقدر عليه، فإذا ثبت على دعواه قيل له: فافعل، فيفضحه ذلك، وإمَّا لأنه همَّ بأن يفعل ما لا يستصوب فعله، فإذا روجع فيه تنبه، وعرف الخطأ، وإما لأنه جوَّز وجود أمر لا يجوز مثله، فإذا ثبت على تجويزه وبّخ على تعنته، وقيل له: فأرناه في موضع وفي حال، وأقم شاهدًا على أنه كان في وقت. ولو كان يكون للإنكار، وكان المعنى فيه من بدء الأمر، لكان ينبغي ألا يجيء فيما يقوله عاقل: إنه يكون حتى ينكر عليه، كقولهم: أتصعد بي إلى السماء، أتستطيع أن تنقل الجبال، أإليّ رد ما قضي من سبيل".
ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الإنكار إذا كان نفيًا لوقوع أمر فمؤدَّاه أن الأمر لا يقع، ولا يعقل أن يقع، فهو نفي مؤكد؛ إذ هو ليس نفيًا للفعل فقط، بل هو نفي له مع بيان أنه لا ينبغي ولا يجوز أن يقع، وإذا كان الفعل قد وقع فهو توبيخ على الوقوع، واستنكار له، كما رأيت في قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف: ٣٢] ، ويلاحظ أنَّ الإنكار سواء أكان إنكارًا للوقوع بمعنى النفي