١٠٠- وإن القرآن سلك في الاستفهام مسلكًا لم نره كثير الاستعمال عند العرب من قبل نزول القرآن، ولكنَّه شاع بعد نزوله من غير سموِّ إلى مسلك القرآن، وهو دخول أداة الاستفهام على حرف النفي، مثل قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}[ق: ٦-١١] .
فأنت ترى من السياق القرآني أنَّ همزة الاستفهام دخلت على لم التي هي حرف نفي، فالاستفهام دخل على حرف نفي وجاء بينهما فاء هي للدلالة على أن السؤال مرتّب على ما كان قبله، وما قبله كان تعجبًا من أمر البعث؛ إذ قالوا:{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} وإنَّهم كذَّبوا بالحق لما جاءهم، فكانت الآيات التي وليت الاستفهام ردًّا على تكذيبهم، وفيها الدلالة على إثبات ما أنكروا، فالفاء للدلالة على ترتيب الاستفهام، لكنَّها أخَّرت عن أداة الاستفهام؛ لأنَّ الاستفهام له الصدارة، فهي مؤخرة عن تقديم في نسق الترتيب الفكري.
والاستفهام الداخل على النفي مؤدَّاه الحث على النظر؛ لأن الاستفهام عن نفي النظر وتقرير عدم النظر، فإذا كان الاستفهام ابتداءً يقرر أنهم لم ينظروا، وفي النظر تَعَرُّف لآات الله تعالى في الكون، فالاستفهام وحرف النفي يدلان على الإثبات، وهو هنا طلب النظر، فكأنَّ المعنى: على هذا المنطق المستقيم ثبت أنكم لم تنظروا، فالواجب أن تنظروا، فالاستفهام ابتداءً كما يبدو من سياق الكلام يقرر أنهم لم ينظروا؛ لأنَّ عدم النظر كان موضع الاستفهام، ومن المقررات البلاغية أن الاستفهام دائمًا يدخل على ما يكون موضع شك، ويقدّم فيه ما يكون موضع الشك، فإذا كان موضع وقوع الفعل كان الاستفهام مسلطًا على الفعل، مثل قول الموحديين للوثنين:{أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا}[الأنعام: ٧١] فهنا نجد موضع الاستنكار هو ذات الفعل، فكان عقب أداة الاستفهام، وإذا كان الفعل قد وقع وموضع الشك هو الفاعل، فإنه يجيء وراء الاستفهام؛ كقوله تعالى حكاية عن قوم إبراهيم؛ إذ رأوا أصنامهم جذاذًا، قال الله تعالى عنهم أنهم قالوا له:{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء: ٦٢] فالفعل ثابت بالعيان أمامهم، ولكن الفاعل هو الذي يريدون البحث عنه ومعرفته.
وبهذا المنطق البياني نرى أنَّ الاستفهام في هذا النص "أفلم ينظروا" داخل على الفعل المنفي، فإذا كانت الهمزة للتنبيه أو التقرير أو التوبيخ، لأنهم لم ينظروا، وهو