وأمثال ذلك كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}[البقرة: ٢٢٨] وهذه حال المطلقة الحامل، وذلك إيجاز لا تفصيل فيه، وبينت حال الحامل، في قوله تعالى:{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق: ٤] .
١٢٩- وإنَّ الأمر الذي يجب أن نعرفه ونؤمن به ونؤكده، وهو الذي يليق ببلاغة القرآن التي لا تسامى، ولا تناهد، وتتحدَّى بها الأجيال كلها -في كل اللغات- أن الإيجاز ليس فيه قصور في الألفاظ تكون على قدر المعاني مع كثرتها، فهي واضحة الدلالة، كما أنَّ المعاني وفيرة غزيرة مغدقة.
وإنَّ الإطناب كذلك، فإنَّ المعاني تكون كثيرة، والألفاظ على قدرها لا زيادة فيها بحيث لا يمكن الاستغناء عن عضها والاكتفاء ببعضها، بل إنك لو أردت حذف كلمة، بل حرف من كلمة لأحسست بأنك قطعت جزءًا من الصورة البيانية، فلا تكون الصورة كاملة بدونها، بل تحس بفراغ في مكانها لا بُدَّ أن يملأ.
وإذا كان الإطناب مع كثرة الألفاظ على قدر المعاني؛ بحيث لا يُسْتََغْنَى بكلمة عن كلمة، والإيجاز كذلك، فما الفرق إذن بينهما، ولم يكن ثمة حاجة لأن يقسم بيان القرآن إلى إيجاز وإطناب، وقد اتفق علماء البلاغة على أن في القرآن الكريم النوعين.
وإننا نقول في الجواب: إن الإيجاز والإطناب طريقان للبيان، كل منهما واف في موضعه، يؤدي الغرض الأول في موضعه، وهما يتباينان لا يجمعهما إلا البلاغة البينة الواضحة، وكل له مقامه.
ولنوضِّح الفرق بينهما في الحقيقة، ثم نوضِّح الفرق بينهما في مواضعهما من القرآن الكريم.
فالفرق بينهما في الحقيقة أنَّ الإيجاز يكون بحذف كلمة دلَّت القرائن عليها مع الوفاء في حذفها، كالوفاء في ذكرها، والبلاغة تكون في الحذف في مقام البيان إن كانت الدلالة قائمة، والقرائن مثبتة، ويكون في الحذف فائدة لا توجد مع ذكر المحذوف؛ كقول الله تعالى عن قول إخوة يوسف لأبيهم:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[يوسف: ٨٢] .
وإن القرية وهي مجموع المساكن والطرقات لا تسأل إنما يسأل من فيها، بل يسأل بعض من فيها، وذلك دليل على أنَّ المسئول هو البعض، فهنا إيجاز بالحذف،