كانت بمعنى الإعراض عامَّة؛ وذلك لأنَّ هذه الجملة حالية، أي: إنَّ الإعراض النفسي عن الحق، وجحودهم حال مستمرة من أحوالهم، فالحق لا يصل إلى قلوبهم.
والثاني وهو قوله تعالى:{أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} فإن الذين يدعون التكرار في المعنى يقولون أن اشهادة هنا هي الإقرار إلا أن يكون تكرار؟
ونقول في الإجابة عن ذلك أن ذكر {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} بعد الإقرار ليس تكرارًا؛ لأن الشهادة هنا ليس معناها الإقرار؛ لأنَّ الإقرار قد يكون عن أمر مغيب، وإنما معناها الحضور والرؤية، والمعنى على ذلك أنكم حضرتم الميثاق وأقررتم على ما فيه، فهو إقرار موثَّق لا تستطيعون أن تدعوا الغفلة إذ هو قول وحضور، فعن أيهما تغفلون.
ومن الآيات القرآنية التي يدّعي فيها التكرار بادي الرأي قوله تعالى في قصة صالح -عليه السلام- مع قومه:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[الأعراف: ٧٤] .
وقد قالوا أن هنا تكرارًا في المعنى؛ لأن العثى هو الفساد، فمعنى لا تعثوا لا تفسدوا، فكلمة مفسدين تكون تأكيدًا للمعنى، والجواب عن ذلك أنه لا تكرار؛ لأن النبي الأمين نهى عن الفساد، وعن القصد إليه، فكلمة مفسدين تدل مع لا تعثوا على عدم القصد إليه، ومن جهة أخرى فيها إيماء إلى أن الإفساد وصف لهم، فعليهم أن يتخلّوا عن الوصف، وهي كذلك تدل على شناعة حالهم، وفساد جمعهم؛ إذ إنه فساد لا صلاح معه، فهل يقال بعد هذا أنَّ ثمة تكرارًا في المعاني في أيِّ جملة من آيات كتاب الله تعالى.
وأنه لا يوجد تكرار لفظي في جملة واحدة، ولا في موضع واحد.
وقد ادَّعى بعض العلماء التكرار في مواضع في القرآن، وعلله بما لا ينتنافى مع إعجاز القرآن الكريم، بل إنَّه من دلائل الإعجاز؛ إذ إن تكرار المعنى الواحد بعبرات مختلفة في مواضع مختلفة مع جمال الألفاظ والجمل في مواضعها المخلتفة، كأن يكرر المعنى في قصة في سور مختلفة، وكل عبارة معجزة في ذاتها، ويتحدَّى بها في نغمها وموسيقاها وألفاظها وجملها، وعجز العرب عن أن يأتوا بأي عبارة منها دليل على كمال الإعجاز في جملته وفي أجزائه.
ونحن نرى أنَّه لا تكرار في عبارات القرآن بمعنى أن يكرر المعنى من غير حاجة إليه، بل ذكرنا أنه إذا تكرَّر لفظ أو معنى، فإنما يكون ذلك لمناسبة جديدة، ويكون عدم ذكر ما يدّعي فيه التكرار إخلالًا، وذلكم مستحيل على كتاب الله تعالى.
وقد ضربنا على ذلك الأمثلة من قصص القرآن، ومن أنواع الاستفهام، وذلك في صدر كلامنا في تصريف القول في القرآن.