للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويجعل النفس لا تستسيغ الحق إلا بمعالجات عسيرة، وإن الإقناع بذلك لا يكون إلَّا بالطب لأدواء النفوس، وأدواء النفوس أعسر علاجًا، وأعزّ دواء من علاج الأجسام.

وهؤلاء لا بُدَّ لهم من طريق جدلية تزيل ما لبس الحق عليهم، ويتخذ بها قوة مما يعتقدون؛ إذ يلزمهم بما عندهم، ويفحصهم بما بين أيديهم، ويتخذ مما يعرفون وسيلة لإلزامهم بما يرفضون.

وهذا الصنف من الناس، وإن كان أكثر عددًا من الأول، ليس هو الجمهور الأعظم ولا الكثرة الغالبة بين الناس، ولعله الذي أمرنا الله تعالى بألَّا نجادله إلا بالتي هي أحسن، وذلك في قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: ٤٦] .

ج- أما الجمهور الأعظم من الناس فليسوا هؤلاء ولا أولئك، بل هو في تفكيره أقرب إلى الفطرة، فيه سلامتها، وفيه سذاجتها، وفيه إخلاصها وبراءتها، وهو لا يخاطب بتفكير الفلاسفة، ولا يخاطب بما يخاطب به المتفكرون تفكرًا علميًّا، بل يليق به ما التقى فيه الحق مع مخاطبة الوجدان، وما اختلطت فيه اليقينية بما يجعل الأهواء تابعة لها، والميول خاضعة لمنهاجها، وما التقت فيه سلاسة البيان وبلاغته بقوة الحق، وليس بما يختص به أهل المنطق، ولا ما عليه أهل العلوم الكونية، إنما يخاطب الجمهور الأعظم بالحق، بما يغذى الفطرة، وبما يثيرها ويوجهها إلى السبيل الأقوم.

والقرآن الكريم نزل بتلك الشرعية الشريعة الأبدية التي جاءت للكافة، وبعث بها النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس جميعًا بشيرًا ونذيرًا، فلا تقتصر دعوته على قبيل، ولا على جيل، بل هي لكل الأجيال والقبائل والأقوام، والألوان، إلى أن يرث الله تعالى الأرض، ومن عليها.

١٥٢- لذلك وجب أن يكون القرآن وهو الحجة الكبرى فيه من الأدلة والمناهج ما يقنع الناس جميعًا على اختلاف أصنافهم وتباين أفهامهم، وتفاوت مداركهم، ووجب أن يكون أسلوبه الفكري والبياني بحيث لا يعلو على مدارك طائفة بعد بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الذين تلقوا من النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- علم القرآن وبيانه، ويجد العلماء فيه غذاء نفسيًّا واعتقاديًّا وخلقيًّا وصلاحًا إنسانيًّا، بل يصل الجميع إليه، يجد فيه المثقف بغيته، والفيلسوف طلبته، والعامة من الشعوب دواء نفوسهم، وشفاء قلوبهم، والحق المبين الهادي لهم الذي يأخذ بايديهم إلى العزة والرفعة.

وكذلك سلك القرآن الكريم. فالمتدبر لآياته، والمفكر في منهاجه، يجد فيها ما يعمل الجاهل، وينبه الغافل، ويرضي نهمة العالم، اقرأ قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ

<<  <   >  >>