الخلق والإيجاد، وما ينجم عنهما من وحده المعبود بحق، فإنك واجد علمًا كثيرًا، يساير العقل ولا يعانده؛ لأنه الفطرة المستقيمة التي لم تفسدها نظرية السببية في المنشئ التي أخذوها من السببية في الأمور العادية، وفرق بين واجب الوجود الذي أنشأ الكون ودبره، وهو القيوم القائم عليه الذي قدَّر كل شيء تقديرًا، وبين توالد الأحداث، وهو لا تكونه بغير تقديره وتدبيره -سبحانه وتعالى، إنه فعال لما يريد.
١٦٤- وفي القرآن علم الرسالة الإلهية، والمعجزات التي اقترنت بها، فهو يبين أن الله -سبحانه وتعالى- خلق الخلق، وخصَّ العالم الإنساني بالرسل يرسلهم إليه، ليسير الناس في الصلاح بدل أن يسيروا في الفساد، وليكونوا في مودَّة وسلام بدل أن يكونوا في حرب وخصام، وليصلوا ما أمر الله أن يوصل؛ لأن الله تعالى الذي خلق الإنسان جعله إمَّا شاكرًا وإما كفورًا، فهيَّأ للشاكر أسباب شكره، وجعل الكفور مسئولًا عن فعله بعد إنذغار المنذر وتبشير المبشر، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء: ١٥] وكما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر: ٢٤] فما كانت هذه الرسالات الإلهية إلّا لتهدي الناس إلى خير الطرق، ومن يكفر فإنما يكون عن بينة لئلَّا يكون للناس على الله حجة.
والقرآن الكريم يبيِّن أنَّ الرسل يكونون من البشر، ومن أقوامهم ليكونوا أكثر إلفًا، وعندهم علم بهم، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم: ٤] وقومه هم دعامته الأولى، فهم الذين يكونون القوة الأولى لدعوته، ويكون منهم الحواريون الذين يناصرونه ويرعونه حق رعايته.
وعندما طلب المشركون أن يكون الرسول ملكًا، ردَّ الله -سبحانه وتعالى- عليهم قوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}[الأنعام: ٨، ٩] .
وأنَّ الله تعالى صرَّح بأنَّ الرسالة للرسل لكي يقوم الناس بالحق والميزان، فقط قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحديد: ٢٥] .
وفي هذا النص الكريم يبيِّن الله -سبحانه وتعالى- أنَّ الرسل جاءوا بالكتاب من عنده سبحانه؛ ليقوم الناس بالقسط، ومن لم يقنعه الدليل، ولم يهتد بهداية الرحمن، وبمقتضى الفطرة المستقيمة، والإدراك السليم، فإنَّ الحديد فيه بأس شديد يقمعه من الشر، ويبعد عن الناس فساده وإفساده.