وثالثها: الإتيان بعرشها بين غمضة عين وانتباهتها، أو كما عبَّر القرآن الكريم {آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، وهذا من تسخير الله تعالى لسليمان، ومن العلم الذي أعطاه الله بعض عباده المخلصين، ونقول: إنَّ الآية صريحة في أنَّ الذي أتى هو عرشها حقيقة لا صورته، كما يقول المتشددون في المادية، ومع ذلك إذا كانت هي الصورة فإنَّ الخارق ثابت، وهو أنَّه أتى به قبل أن يرتد إليه طرفه.
وفي قصة نبي الله سلميان -عليه السلام- خوارق أخرى غير ما جاء في سورة النمل، فقد جاء في سورة سبأ ما نصه:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ: ١٢-١٤] .
العبرة في خوارق العادات لسليمان:
١٦٩- أطنبنا بعض الإطناب في النقل من القرآن الكريم عن خوارق العادات في عهد نبي الله سليمان -عليه السلام؛ وذلك لأنَّ هذا العصر كانت فيه الفلسفة الأيونية مسيطرة في آسيا الصغرى، وتولدت عنها فلسفة اليونان، وكانت الفلسفة الأيونية قائمة على الأخذ بالأسباب والمسببات، وتولّد المعلول من العلة في انتظام قائم لا يتخلف، فجاء سليمان -عليه السلام، وقام سلطانه كله على خرق للأسباب والمسببات، والقيام على إثبات أنَّ الكون كله بإرادة مريد مختار، ولا يفعل إلا ما يريد، ولا يصدر عنه شيء بغير إرادته الخالدة الثابتة، فقام سليمان بذلك، وأجرى الله تعالى تلك الخوارق على يديه، فأجرى الريح التي غدوّها شهر ورواحها شهر على يديه، وعلِّم منطق الطير، وسمع حديث النمل، وجاءه عرش بلقيس بين يديه قبل أن يرتدَّ إليه طرفه، وسخَّر الله تعالى له الجنّ، وكان كل شيء في حكمه بخوارق العادات، أو بخرق نظام الأسباب والمسببات العادية التي بنيت عليها نظرية أنَّ المخلوقات نشأت عن الموجد الأول نشوء العلة عن معلولها، فكانت حياة نبي الله تعالى سليمان في ملكه تجري على هدم هذا النظر، وسخر الله له الريح تجري بأمره حيث أصاب، وكذلك كانت الخوارق للأسباب هي المسيطرة في معجزات من جاء بعده من الرسل.