للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ونرى أن هذه الكفارة شرعت لمعنى خلقي، وهو صيانة الألسنة عن كثرة الإيمان وإخلافها، والتعرض للمهانة، كما قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: ١٠] ، وأيضًا لكيلَا يتَّخذ المؤمنون يمين الله حاجزًا بينهم وبين فعل الخير إن حلفوا، وبدا الخير في غير ما حلفوا عليه، فشرع لهم تلك الكفارة تَحِلَّة لأيمانهم، كما قال -عليه الصلاة والسلام: $"من حلف على شيء فرأى خيرًا منه، فليحنث وليكفر".

وإنَّ الكفارة ذاتها عبادة بدليل أنَّها كانت صومًا في بعض أحوالها.

ومن الكفَّارات التي ذكرت في القرآن علاجًا إحياء للأسرة، ولمنع الظلم عن المرأة كفارة الظهار، وهي كفارة من يحرِّم امرأته على نفسه، ويجعلها كإحدى محارمه من غير إرادة طلاق، وما كان لشريعة القرآن أن تترك المرأة المظلومة فريسة لكلمات ينطق بها اللسان إيذاء وظلمًا، ولا يترك المتكلم بها من غير عقاب لغوًا عابثًا، بل لا بُدَّ من ردِّ الحق، وعقاب العابث، فكانت الكفارة، وتثبت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: ٣، ٤] .

ونرى أنَّ هذه الكفارة فيها إقامة للحياة الزوجية على دعائم من المودة والإنس النفسي من غير إيحاش ولا إعنات؛ لأن النطق بهذه الكلمات وأشباهها يلقي بالجفوة في قلب الزوجة فلا تطمئنُّ إلى زوجها، ولا إلى الحياة الزوجية الكريمة المتوادة، ولهذا كانت تلك الكفارة محافظة على هذه المعاني.

ومن الكفارات التي نصَّ عليها القرآن الكريم كفارة القتل الخطأ، فإن الله أوجب الدية تعويضًا لأسرة المقتول، وأوجب الكفارة إذا كان القاتل المخطئ من أهل التكليف، وذلك لتعويض جماعة المؤمنين، ولتربية النفس على الاحتراز من الخطأ، والاحتياط له، ولقد قال -سبحانه وتعالى- في ذلك: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: ٩٢] .

وواضح أنَّ الدية لتعويض الأسرة وهي تجب على أسرة الجاني لأسرة المجني عليه، وفي وجوبها على أسرة الجاني معنى التعاون الاجتماعي بين الأسرة في دفع الأذى، والحمل على المعاونة في التأديب النفسي.

والكفارة فيها تعويض لجماعة المؤمنين؛ لأنَّه يقتله لمؤمن قد نقص عدد المؤمنين، فكان الواجب أن يعوّض ما نقص بعتق رقبة مؤمنة؛ لأن العتق إعطاء الحرية، والحرية كالحياة.

وفي الجملة أنَّ الكفارات كلها التي جاء بها القرآن وبيَّنَتها السنة النبوية فيها معنى العبادة، وفيها صلاح، وفيها تعاون اجتماعي إنساني.

<<  <   >  >>