فكانت القراءة التي وعد الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- هي الترتيل، وهي تلك القراءات المأثورة عن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين تلقَّوها عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد رأيت أنَّه تلقَّاها عن ربه.
وهذه القراءات نجد الاختلاف فيها مع أنَّه تنتهي جميعها إلى المورد العذب، والمنهل السائغ، وهو تلاوة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تلقَّاها عن ربه، ليس اختلاف تضاد في المعاني، أو اختلاف تباين في الألفاظ، بل يكون الاختلاف:
أولًا: في شكل آخر الكلمات أو بنيتها، مما يجعلها جميعًا في دائرة العربية الفصحى، بل أفصح هذه اللغة المتسقة في ألفاظها، وتآخي عباراتها ورنَّة موسيقاها، والتواؤم بين ألفاظها ومعانيها.
وثانيًا: في المد في الحروف من حيث الطول والقِصَر، وكون المد لازمًا أو غير لازم، وكل ذلك مع التآخي في النطق في القراءة الواحدة، فكل قراءة متناسقة في ألفاظها من حيث البنية للكلمة، ومن حيث طول المد أو قصره.
وثالثًا: من حيث الإمالة، والإقامة في الحروف، كالوقوف بالإمالة في التاء المربوطة وعدم الإمالة فيها.
ورابعًا: من حيث النقط، ومن حيث شكل البنية في مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: ٦] ، فقد وردت فيها قراءتان متواترتان: فتبينوا، وقراءة أخرى "فتثبتوا" وهما متلاقيتان، فالأولى طالبت بالتبين المطلق، والأخرى بينت طريق التبيين، وهو التثبت بتحري الإثبات، فإن لم تكن طرق الإثبات، ولا دليل على القول، فإنه يرد الكلام، ولا يتمسَّك بما قيل متظننًا فيها من غير دليل، وكلتا القراءتين مروية بسند متواتر لا مجال للريب فيه، فكانت إحدى القراءاتين مفسرة للأخرى.
وخامسًا: زيادة بعض الحروف في قراءة، ونقصها في أخرى، مثل: زيادة الواو في قراءة، وزيادة مِنْ في أخرى، وهذه نادرة لم أرها إلَّا في حالتين اثنتين فقط، فقد ذكر بن الجزري إمام القراء المتأخرين المتوفَّى في سنة ٨٢٣هـ، أنّ ابن عامر وهو من القرَّاء السبعة يقرأ {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}[يونس: ٦٨] وقرأ غيره: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} وإن حذف الواو ثابت في المصحف الشامي، وكان ابن كثير يقرأ:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} وقراءة غيرها {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَار} ، ومفهوم كلام ابن الجزري أنَّ القراءتين متواترتان، وأن هذا يؤدي إلى أمر جوهري، وهو أن المصاحف في هذا الموضع ليست نسخًا متحدة اتحادًا كاملًا، منسوخة كلها من المصحف الإمام، وهو المصحف الذي احتفظ به الإمام عثمان في دار الخلافة، وقد اتفقت الروايات على أنه لم يكن