فمنطقهم الظالم يسير سيرًا عكسيًّا، تصغير العقوبة عندهم بكبر المجرم وتكبر بصغره، أمَّا الإسلام فإنه ينظر في الأمر بمنطق مستقيم، فالجريمة تكبر بكبر المجرم، ويكون العقاب على قدرها، وتصغر بصغر المجرم، ويكون العقاب على قدرها؛ وذلك لأنَّ الجريمة هوان، وأن الهوان يسهل على الضعيف؛ إذ لا قوة نفس تعصمه وتنهاه، وأن العبد والأمة في ذلٍّ وهوان، فالجريمة منها قريبة، فيعذران، ويخفف عليهما العقاب، وذلك هو منطق العدل المستقيم، وهو شرع الله العظيم.
حد القذف:
٢١٠- القذف هو رمي المحصنات والمحصنين بالزنى، من غير دليل مثبت، بل بمجرَّد الظنّ الواهم، أو الإيذاء الآثم، وفي ذلك تهوين للجريمة وإشاعة للفاحشة في الذين آمنوا، ولذلك كان العقاب الصارم على من يقذف، ويرمي المحصنين والمحصنات من غير تثبت ولا تحرج، ولقد قال الله تعالى في ذلك مبينًا له بعد حد الزنى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور: ٤، ٥] .
وهذا النص السامي دلَّ على أمور ثلاثة:
أولها: إنَّ الرمي بالزنى لا بُدَّ أن يكون ثابتًا بشهادة أربعة من الشهداء وإلّا عُدَّ قذفًا باطلًا، وكان له عقوبة قاسية، وهو الجلد ثمانين جلدة، وهو عقوبة مادية لا هوادة فيها.
ويدل ثانيًا على أنَّ هناك عقوبة أدبية أو تبعية كما يقول علماء القانون، وهو ألا تقبل لهم شهادة أبدًا؛ لأنَّهم دنسوا ألسنتهم بقول أفحش الباطل، فيعاقبون على ذلك بألَّا يقبل منهم قول في قضاء، والتأييد يقتضي أنَّ التوبة لا تسوغ سماع شهادتهم.
ويدل ثالثًا على أنَّ التوبة تقبل عند الله إذا تابوا وأصلحوا، وذلك لا يمنع نزول العقاب الأصلي والتبعي؛ لأن التبعي أبدي.
وإنَّ هذه العقوبة لمنع إشاعة الفاحشة؛ لأنَّ الاتهام بالنى وخصوصًا للأبرياء يسهل ارتكابه، ولقد قال الله تعالى في ذلك:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ}[النور: ١٩] .
ولقد ضرب الله -سبحانه وتعالى- مثلًا للذين آمنوا بحال أم المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها، وهي الطاهرة بنت الطاهرة، وزوج أطهر من في هذا الوجود، تطاول المفترون عليها بالإفك، وقال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى