للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"أ" من هذه الأمثلة أنَّ النفس التي تسارع إلى الاعتقاد من غير دليل سابق، ولا فحص لقول لاحق من شأنها أن تقع في الخطأ، وإذا أصرت بعد البيان كانت في ضلال أصابها الصمم عن الحقائق، والعماء عنها، اقرأ قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: ١٠١، ١٠٢] .

إن الذي وهبه الله الهداية لفهم القرآن الكريم بعباراته وإشاراته تبدو بين يديه الحقيقتان الآتيتان:

أولاهما: إنَّه -سبحانه وتعالى- يقرّر أنه ليس من شأن الذين سارعوا إلى التكذيب من غير أن يفحصوا ويدرسوا أن يؤمنوا؛ لأن الإيمان يقتضي قلبًا مذعنًا لما يأتي به الدليل، لا أن يكون سابقًا بالحكم قبل الدليل، وقد أشار -سبحانه وتعالى- إلى ذلك بقوله تعالت كلماته: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} وواضح أن العلة في سد باب الإيمان هو مسارعتهم بالتكذيب من غير برهان، ومن يكذب بالبرهان لا يؤمن بما جاء به البرهان.

الحقيقة الثانية: إنَّ المسارعة بالتكذيب تؤدِّي إلى تغليق القلب عن أن يصل إليه النور، ويتوالى التكذيب من غير دراسة للأدلة يكون منع الهداية، ولذلك يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: ١٠١] أي: بهذه الحال ومثلها يطبع الله تعالى على قلوب الكافرين، ويتحقق فيهم قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: ١٧١] .

"ب" ولننتقل إلى مثل آخر من كتاب الله، وإنَّه المعين الذي لا ينفد في دراسة النفس الإنسانية، ذلك المثل هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: ١٥٥] .

فهذا النص الكريم يبيِّن لنا قاعدة في النفس يسترشد بها المربِّي والمهذِّب، والذي حاول معالجة النفوس المريضة؛ إذ يعرف سبب المرض فيطلب له.

إذ يبيِّن الله -سبحانه وتعالى- أن الذين أعرضوا عن الوقوف يوم التقى الجمعان سبب توليهم أنهم أصابتهم ذنوب، وأنَّ الذنب يسهل الذنب، والمخالفة تجر المخالفة، وأنه لأجل الطبِّ لهم لا بُدَّ أن يعالج الذنب الأول بالحمل على الإقلاع عنه، وقد يكون ظهور مغبَّته السيئة علاجًا له، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ، لأنهم أدركوا سوء ما كان لهم.

<<  <   >  >>