للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الشديد، فمثلًا في سورة الحاقة لا يعمد المرتِّل المدرك إلى اللين في الوقوف على التاء؛ لأنه لا يتناسب مع موضوع التهديد الذي اشتملت عليه السورة كلها، وقد نبَّهنا بعض القراء الذي كان يختار اللين، فتنبَّه، وما عاود أمامنا ما كان يفعل.

وأمر ثالث في تعدد القراءات فوق ما فيها من مراعاة مقتضى المعاني، وفوق ما فيها من ترتيل هو موسيقى القرآن، إن صحَّ لنا هذا التعبير، مع أنَّ القرآن في مقام أعلى وأسمى، ذلك الأمر أنَّ تنوع القراءات فيه تسهيل على القارئ العربي، فقد تصعب عليه قراءة؛ إذ لا تطاوعها طبيعته أو سليقته اللغوية.

وهناك أمر رابع في تنوع القراءات، وهو أن يكون مجموع القراءتين -وكلتاهما قرآن- دالًّا على معنيين في لفظ واحد، متلاقيين غير متضادين، فمثلًا قراءة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: ١٢٨] بضم الفاء يدل على أنه من العرب، والعرب قومه، وذوو رحمه القريبة أو البعيدة، وإذا اجتمعت معها القراءة -بفتح الفاء- كانت الآية دالة بهذه القراءة على أنَّه من أوسط القوم وأعلاهم، فالقراءتان والكلمة واحدة تدلان بالنص على معنيين غير متضادين، وكلاهما صحيح صادق، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان من العرب، وكان من أنفسهم ترتبط مشاعره بمشاعرهم، يحس بما يحسون، وهو مندمج فيهم، وقريب منهم، ثم كان مع هذا القرب النفسي من أعلى العرب منزلة، وأكرمهم، وكذلك يكون الأنبياء من أوساط الأقوام الذي يتسامون عن سفساف الأمور، ويتجهون إلى معاليها.

وقد يقول قائل: إنَّ قراءة أنفسكم -بفتح الفاء- تدل على المرين، فهي تدل على أنه من أعلى قريش وسطًا، وتدل على أنه منهم، نقول في الجواب عن ذلك: إنَّها تدل بالنص على الشرف، وأنَّه من أعلى القوم، ولا يفيد بالقصد والذات أنه من نفس العرب، ومن ذاتيتهم، وأنَّه يحس بإحساسهم، لا تدل قراءة الفتح على ذلك النص، وبيان امتزاج نفسه -عليه السلام- بأنفسهم، وإن هذا لا بُدَّ منه ليشعر بشعورهم، ويشاركهم بوجدانه وإحساسه، ويجذبهم إليه بقوة الامتزاج النفسي، كما يعينهم بلدليل، وبالحق في ذاته، وبما أتاه الله تعالى من بينات باهرات.

وقد يكون اختلاف القراءة فيه كمال التوضيح البياني من غير قصور في إحداهما، ولكن بالقراءتين يكون البيان كاملًا، مثل قراءة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: ٦] فإن قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} تقرأ {فتثبتوا} ولا شك أنَّ المعنى في القراءتين هو ألَّا يؤخذ الساعي بالنميمة أو الساعي بالأذى، أو المفسد بين الناس، لا يصدق قوله ابتداء، وألَّا ينساق وراء ما يثيره القول من عاطفة جامحة، أحيانًا قد تدفع إلى الشر من غير بينة، فالله -تعالت آياته- بينه إلى أنه لا

<<  <   >  >>