يجوز التصديق إلَّا بعد التبين، والتبين يكون بطرائق مختلفة، منها ما يكون بطرق الإثبات من بينات، ومنها ما يكون بالقرائن، ومنها ما يكون يربط الأمور الواقعة بالأمر المخبَر عنه، وهكذا، فالقراءتان تبين إحداهما التبين بالطرق المختلفة، والثانية تبين أنَّ أسلم الطرق هو تعرُّف الأمر بما يثبت من أقوال الصادقين المؤمنين.
وإنه قد يكون اختلاف القراءات مؤديًا إلى بيان حكم بقراءة، وحكم متمِّم له بقراءة أخرى، فتستفاد الأحكام في أوجز تعبير على ما فيه من تغيير القراءة من اختلاف في نغم الترتيل، وموسيقا البيان القرآني الذي يساميه.
وقد قال في هذا المعنى الكاتب الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي:"وثالثة تلحق بمعاني الإعجاز، وهي أن تكون الألفاظ في اختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنى من معاني الشريعة، ولذا كانت القراءات من حجة الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد، وهذا المعنى مما انفرد به القرآن الكريم، ثم هو ما لا يستطيعه لغوي أو بياني في تصوير خيال فضلًا عن تقرير شريعة.
ولذلك تجد الفقهاء في استدلالاتهم الفقهية يقولون: الحجة فيه قراءة كذا، وهي لا تكون مناقضة للقراءة الأخرى، وربما تكون القراءة دالة على حكم آخر غير مناقض للحكم الذي دلت عليه القراءة المستشهد بها، فتكون الآية بالقراءتين دالة على حكمين متلاقين غير متناقضين، وذلك من الإيجاز المعجز الذي لا يوجد في كلام الناس، ولكنَّه موجود في كلام خالق الناس.
٢٥- هذا، ونختم الكلام في القراءات بكلمة مأثورة للصحابي الفقيه عبد الله بن مسعود، فهو يقول:
"لا تنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى، ولا ينفد لكثرة الرد، وإنه شريعة الإسلام، وحدوده وفرائضه، ولو كان شيء من الحرفيين -أي: القراءتين- ينهى عن شيء يأمر به الآخر، كان ذلك الاختلاف، ولكنَّه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شيء من شرائع الإسلام، ولقد رأيتنا نتنازع عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فيأمرنا فنقرأ عليه، فيخيرنا أن كلنا محسن، ولو أنَّ أحدًا أعلم بما أنزل الله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعين سورة، وقد كنت علمت أنَّه يعرض عليه القرآن في رمضان، حتى كان عام قبض فعرض عليه مرتين، فكنت إذا فرغ أقرأ عليه، فيخبرني أني محسن".
اللهم احفظنا بالقرآن واجعله محفوظًا بيننا كما وعدت، إنك لا تخلف الميعاد، ووفقنا للعمل به.