ومن أنصار هذا المذهب الخطَّابي المتوفَّى سنة ٣٨٨هـ، فهو يقول في رسالته:"واعلم أنَّ القرآن إنما صار معجزًا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، متضمنًا أصح المعاني مع توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيء منها في موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يرى في صورة العقل أليق منه"١.
وفي الحقيقة أنَّ الخطابي ينظر إلى الأسلوب على أساس أنَّ الألفاظ قوامه, وهي دعامة بنيانه، حتى إنَّ القرآن الكريم لو حاولت أن تنزع كلمة من جملة لتضع غيرها المرادفة لها لاختلَّ البناء واضطرب، وهو يقول في ذلك:"اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإمَّا ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة، ذلك أنَّ في الكلام ألفاظًا متقاربة في المعاني، ويحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب".
وبهذا انتهى إلى أنَّ الألفاظ في الكلام البليغ لها مقصد خاص من المتكلم، إما لنغمتها وإما لمعناها أو هما معًا، ولا يكون مرادفها صالحًا لِأَنْ يحلَّ محلها.
٤٧- وكون كل كلمة لها لحن قائم بذاته لا نحسب أن الجرجاني ينكره، ولكن مذهبه البلاغي باعتباره من علماء البيان يجعله يتَّجه إلى العبارة المتآلفة، والأسلوب الذي تتلاقى معانيه، ولا يتجه ابتداء إلى الألفاظ، ولعلَّه أيضًا يقبل أن تكون الألفاظ متآخية النغم مؤتلفة الألحان متلاقية في الترتيل. وهو يقرره على أنَّه فرض مقبول فيقول -رضي الله عنه- في تلاؤم الحروف في الكلمات:
"إن أخذنا بأن يكون تلاؤم الحروف في الكلمات وجهًا من وجوه البلاغة وداخلًا في عداد ما يفاضل به بين كلام وكلام على الجملة، لم يكن لهذا ضرر علينا؛ لأنه ليس بأكثر من أن يعمد إلى الفصاحة فيخرجها من حيز البلاغة والبيان، وأن تكون نظيرة لها، وفي عداد ما هو شبيههما من البراعة والجزالة، وأشباه ذلك مما ينبئ عن شرف النظم، وعن المزايا التي شرحت لك أمرها، وأعلمتك جنسها، أو يجعلها اسمًا مشتكًا، يقع تارة لما تقع عليه تلك، وأخرى لما يرجع إلى سلامة اللفظ مما يثقل على اللسان، وليس واحد من الأمرين بقادح فيما نحن بصدده، وإن تعسف متعسف في
١ رسالة الخطابي ص٩ في ضمن رسائل ثلاث في إعجاز القرآن، والخطابي توفِّي سنة ٣٨٨هـ.