فَقُلْت لَهُ: مَنْ قَالَ: إنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ بِمَعْنَى أَنَّ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ غَيْرُ مُرَادَةٍ قُلْنَا لَهُ: أَصَبْت فِي " الْمَعْنَى " لَكِنْ أَخْطَأْت فِي " اللَّفْظِ " وَأَوْهَمْت الْبِدْعَةَ وَجَعَلْت للجهمية طَرِيقًا إلَى غَرَضِهِمْ وَكَانَ يُمْكِنُك أَنْ تَقُولَ: تُمَرُّ كَمَا جَاءَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ كُلِّ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ حُدُوثُهُ أَوْ نَقْصُهُ.
وَمَنْ قَالَ: "الظَّاهِرُ غَيْرُ مُرَادٍ " بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي -وَهُوَ مُرَادُ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ-فَقَدْ أَخْطَأَ.
ثُمَّ أَقْرَبُ هَؤُلَاءِ " الْجَهْمِيَّة " الْأَشْعَرِيَّةُ يَقُولُونَ: إنَّ لَهُ صِفَاتٍ سَبْعًا: الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْكَلَامَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ. وَيَنْفُونَ مَا عَدَاهَا وَفِيهِمْ مَنْ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ " الْيَدَ " فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَقَّفُ فِي نَفْيِ مَا سِوَاهَا وَغُلَاتُهُمْ يَقْطَعُونَ بِنَفْيِ مَا سِوَاهَا.
وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا وَهِيَ تَرْجِعُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ إلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا فَعِنْدَهُمْ أَنَّهَا صِفَاتٌ حَادِثَةٌ أَوْ إضَافِيَّةٌ أَوْ عَدَمِيَّةٌ. وَهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى " الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ " مِنْ الرُّومِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ حَيْثُ زَعَمُوا: أَنَّ الصِّفَاتِ كُلَّهَا تَرْجِعُ إلَى سَلْبٍ أَوْ إضَافَةٍ؛ أَوْ مُرَكَّبٍ مِنْ سَلْبٍ وَإِضَافَةٍ؛ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ ضُلَّالٌ مُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ.
وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مَعْرِفَةَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَبَصَرًا نَافِذًا وَعَرَفَ حَقِيقَةَ مَأْخَذِ هَؤُلَاءِ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِالرُّسُلِ وَبِالْكِتَابِ وَبِمَا أُرْسِلَ بِهِ رُسُلُهُ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ وَآيِلَةٌ إلَيْهِ. النقطة الثانية: قُلْت لَهُ: إذَا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَةِ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ -الَّذِينَ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ-فَصَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا اللَّائِقِ بِجَلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَحَقِيقَتِهَا الْمَفْهُومَةِ مِنْهَا: إلَى بَاطِنٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَمَجَازٍ يُنَافِي الْحَقِيقَةَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَكَلَامَ السَّلَفِ جَاءَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِشَيْءِ مِنْهُ خِلَافُ لِسَانِ الْعَرَبِ أَوْ خِلَافُ الْأَلْسِنَةِ كُلِّهَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مَا يُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ كُلُّ مُبْطِلٍ أَنْ يُفَسِّرَ أَيَّ لَفْظٍ بِأَيِّ مَعْنًى سَنَحَ لَهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute