للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

يَفْعَلُوهُ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِمْ لَهُ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ لِلْعِبَادِ وَلِقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لِلرَّبِّ وَلَيْسَ هَذَا مَقْدُورًا بَيْنَ قَادِرِينَ بَلْ الْقَادِرُ الْمَخْلُوقُ هُوَ وَقُدْرَتُهُ وَمَقْدُورُهُ مَقْدُورٌ لِلْخَالِقِ مَخْلُوقٌ لَهُ. و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ حَقٌّ وَالنَّسْخُ فِيهَا هُوَ رَفْعُ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ مِنْ الْآيَةِ مَا لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ نَفْسًا مَا لَا تَسَعُهُ فَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ فَهْمَهُ وَظَنَّهُ وَمَنْ فَهِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْعَذَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَعَدْلٍ فَقَدْ نَسَخَ فَهْمَهُ وَظَنَّهُ فَقَوْلُهُ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا﴾ رَدٌّ لِلْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ رَدٌّ لِلثَّانِي وَقَوْلُهُ: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ كَقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ الْآيَةَ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحَاسِبُ بِمَا فِي النُّفُوسِ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: زِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا. و " الْمُحَاسَبَةُ " تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ يُحْسَبُ وَيُحْصَى. وَأَمَّا " الْمَغْفِرَةُ وَالْعَذَابُ " فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ الْكُفْرُ وَبُغْضُ الرَّسُولِ وَبُغْضُ مَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الَّذِينَ لَمْ يَرْتَابُوا - عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَا تَتَكَلَّمُ بِهِ أَوْ تَعْمَلُ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ (أَنَّ الَّذِي يَهِمُّ بِالْحَسَنَةِ تُكْتَبُ لَهُ وَاَلَّذِي يَهِمُّ بِالسَّيِّئَةِ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا) إذَا كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ عَادَتِهِ عَمَلُ الْحَسَنَاتِ وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ فَإِنْ تَرَكَ السَّيِّئَةَ لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِذَا أَبْدَى الْعَبْدُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الشَّرِّ بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ صَارَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الذَّمَّ وَالْعِقَابَ" (١)

قال ابن حجر: «بدا لله أن يبتليهم» (٢)؛ أي: سبَق في علم الله، فأراد إظهاره،


(١) مجموع الفتاوى ١٤/ ١٠٤ - ١٠٧
(٢) يشير بذلك للحديث الوارد عن أبي هريرة قال قال رسول الله : "إنَّ ثَلَاثَةً في بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ ﷿ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فأتَى الأبْرَصَ، فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عنْه، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: الإبِلُ، أَوْ قالَ: البَقَرُ، هو شَكَّ في ذلكَ: إنَّ الأبْرَصَ، وَالأقْرَعَ، قالَ أَحَدُهُما الإبِلُ، وَقالَ الآخَرُ: البَقَرُ -، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقالَ: يُبَارَكُ لكَ فِيهَا وَأَتَى الأقْرَعَ فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هذا، قدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: البَقَرُ، قالَ: فأعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقالَ: يُبَارَكُ لكَ فِيهَا، وَأَتَى الأعْمَى فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ به النَّاسَ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ الغَنَمُ: فأعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هذانِ وَوَلَّدَ هذا، فَكانَ لِهذا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهذا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهذا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إنَّه أَتَى الأبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عليه في سَفَرِي، فَقالَ له: إنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقالَ له: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فقِيرًا فأعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقالَ: لقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عن كَابِرٍ، فَقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ، وَأَتَى الأقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ له: مِثْلَ ما قالَ لِهذا، فَرَدَّ عليه مِثْلَ ما رَدَّ عليه هذا، فَقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ، وَأَتَى الأعْمَى في صُورَتِهِ، فَقالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بهَا في سَفَرِي، فَقالَ: قدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفقِيرًا فقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ ما شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لا أَجْهَدُكَ اليومَ بشيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقالَ أَمْسِكْ مَالَكَ، فإنَّما ابْتُلِيتُمْ، فقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ علَى صَاحِبَيْكَ. صحيح البخاري: ٣٤٦٤

<<  <  ج: ص:  >  >>