للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

جعفر الهمداني: يا أستاذ دَعْنَا مِنْ ذكر العرش- يعني لأن ذلك إنما جاء في السَّمْعِ- أَخْبِرْنَا عن هذه الضرورة التي نَجِدُهَا في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قَطُّ (يا الله) إلا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ العُلُوَّ، لا تلتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حَيَّرَنِي الهمذانيُّ، حَيَّرَنِي الهمدانيُّ، ونزل (١).

فالله فطر هذه القلوب على إثبات علوه ﷿ فأنت في كل أحوالك إذا سألت الله اتَّجهت إلى جهة واحدة، وهي جهة العلو، فلا تلتفت يمنة ولا يسرة؛ لأن الله فطر القلوب على معرفته، ومن ذلك جواب الجارية على النبي لما سألها الجارية: «أين الله؟». فقالت: «في السَّماء». فقال : «أَعْتِقها؛ فإنَّها مؤمنة» (٢).

فإذًا هذا أمرٌ مغروسٌ في الفِطَرِ، الله تعالى فَطَرَ الناس على ذلك، وما من إنسانٍ صاحب فطرةٍ سليمة إلا وهذا الأمر في فطرته، وهذا يؤكده حديث الجارية، لما سألها النبي : أين الله؟ قالت: في السماء، وهذا جاء في صحيح مسلم.

بل إن هذا أمرٌ مغروسٌ في فطر الأمم جميعًا، على اعتقاد بأن الله تعالى في السماء؛ ولذلك ما من إنسان يحزبه أمر إلا إذا أراد أن يدعو الله تعالى وأن يناجي الله -مد يديه إلى السماء، واتجه بقلبه إلى جهة السماء، يسأل الله ، ويطلب الله .

فإذًا كما يقول المصنف: "كما فطر الله على ذلك جميع الأمم"، فجميع الأمم بلا استثناء مفطورةٌ على الإيمان بأن الله تعالى في السماء، وأنه عالٍ على خلقه، سواءٌ كانوا عَرَبًا أو عَجَمًا في الجاهلية أو الإسلام، "إلا مَنْ اجتالته الشياطين عن فطرته" (٣) يعني: إنسان غُيِّرت فطرته، إذ لُقِّن أن الله في كل مكان، هذا إنسانٌ آخر، إنسانٌ تغيرت فطرته بمغيرٍ خارجي.

وكما قال النبي : «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ» (٤)؛ معنى ذلك أن الفطرة قد تتغير إذا لُقِّن هذا الإنسان أمرًا مخالفًا


(١) انظر: «مجموع الفتاوى» (٤/ ٤٤).
(٢) أخرجه مسلم (٥٣٧)، وقد تقدَّم قريبًا.
(٣) انظر المصدر السابق.
(٤) انظر صحيح البخاري كِتَابُ الجَنَائِزِ، بَابُ إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ، هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإِسْلَامُ، برقم (١٣٥٩)، ومسلم كتاب الْقَدَرِ، بَابُ مَعْنَى كُلِّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَحُكْمِ مَوْتِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ (٢٦٥٨)، وأبو داود (٤٧١٤)، والترمذي (٢١٣٨)، والإمام أحمد في المسند مُسْنَدُ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ (٧١٨١).

<<  <  ج: ص:  >  >>