[أنواع الهجر]
الهجر أنواع وأصناف، من أشهرها نوعان: الأول: هجر المجانبة، والبعد عن مواطن البدع وأهلها.
بمعنى أن تهجر صاحب البدعة فلا تخالطه ولا تجالسه ولا تنادمه ولا تصاحبه في سفر، ولا فيما يقتضي الرضا ببدعته، أو ما يفهم منه الرضا ببدعته أو إقراره على ما هو عليه.
وهذا النوع من الهجر يملكه كل الناس في كل زمان، بمعنى ألا تخالطه مخالطة المنادمة والمصاحبة التي تؤثر عليك وتوقعك في التبسط والرضا بما هو عليه؛ لأن مجرد المجالسة الطويلة تشعر بالرضا، بل لا بد أن يكون من لوازم المجالسة الرضا بما عليه الجليس.
وأهل البدع الذين يُهجرون هم أهل البدع المغلظة والشركية ما داموا مظهرين لبدعتهم في أعمالهم أو يدعون إليها، فإذا كانت ظاهرة في سلوكهم فيجب هجرانهم بهذا النوع الذي ذكرته، وكذلك إذا دعوا إليها بأي نوع من أنواع الدعوة فإنه يجب هجرانهم على النوع الذي ذكرته.
الثاني: هجر المباينة والعداوة، وهجر البراءة والتضييق، وهي أمر زائد على مجرد ترك المصاحبة.
وهذا النوع الغالب أنه لا يحكم به فرد، إنما يرجع إلى أهل العلم الذين يؤخذ بحكمهم، أو إذا قالوا امتثل الناس قولهم.
وهو أن يأمر من له رأي وحل وعقد من عالم كبير أو وال تهمه عقيدة الأمة بألا يتعامل مع فلان وأن يُهجر فلا يتكلم معه حتى في الأمور الصغيرة البسيطة، وهذا الهجر هجر الردع وهجر التأديب، كما فعل عمر رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل التميمي وكما فعل ثابت البناني وابن عون والحسن البصري والأوزاعي ونحوهم من الأئمة الذين هجروا أصنافاً من أهل البدع في وقتهم، كـ واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي وغيرهم، فإنهم كلهم ممن حُكم بهجره وإسكاته، وكان الناس في ذلك الوقت يمتثلون، فإذا قال العالم أو الأمير قولاً في صاحب بدعة بأن يُهجر ولا يُصاحب أو لا يكلم فإن الناس يهجرونه الهجر الكامل ويبتعدون عن مجالسته ومخالطته، فإذا لقوه في الشارع أو في السوق جانبوه، إذا قعد في حلقة إما أن يقوم وإما أن يقوموا هم، وإذا جاء إلى مائدة أو حفل أو نحوه إما أن يُخرج أو يخرجوا ويتركوا هذا الحفل ونحو ذلك، فهذا الهجر بمعنى المباينة الكاملة والمفاصلة، والمقصود به تأديب المبتدع نفسه، وزجر غيره ليرتدع الجهلة من الوقوع في الأهواء، وأيضاً ليحصن الأمة من بلائه وخطره.
وهذا النوع يرجع إلى مدى استعداد الناس لطاعة العالم أو طاعة الوالي، فإذا كان الناس سيطيعون فإنه ينبغي أن يُتخذ هذا المسلك مع أهل البدع المغلظة الذين يُخشى خطرهم على الأمة، لكن إذا كان العالم أو الآمر بذلك لا يُطاع فإن المسألة تكون مجرد عبث، والغالب أن الأمر ينعكس، أعني أنه إذا كان العالم أو الأمير لا يُطاع عندما يأمر بالهجر فإن هذا سيؤدي إلى التعاطف مع المبتدع.
إذا كان المسلمون في غربة وأهل السنة في غربة أو في حالة استضعاف، أو في وقت تهيمن عليه بعض النظم التي قد تحول بين العالم أو الإمام وبين تنفيذ أمره، فإن المسألة تحتاج إلى فقه آخر، أي أن من الحكمة ألا يؤمر بالهجر من هذا النوع، أما النوع الأول فكل يملكه في كل وقت، أي أن تجانب المبتدع ولا تجالسه إلا في حدود الضرورة القصوى كأن تعامله بصفته جاراً، فتعطيه حق الجوار، أو بصفته زميلاً في العمل فتعامله في حدود العمل أو تعامله في المصالح المادية الخالصة التي ليس فيها نوع تودد أو معاشرة تامة، فإن هذا قد يُسمح به إذا كان صاحب هذه البدعة لا يدعو إلى بدعته، أما إذا دعا إلى بدعته فلا بد من الحزم معه.
قال: (وترك الجدل والخصومات في الدين).
وهذا نوع من أنواع الهجر، بل هو أصل يتعلق بالهجر وغيره، وجاء به هنا لأن أهل الأهواء غالباً ما يجرون من يجالسهم إلى الخصومات؛ لأنهم يثيرون الشبهات والإشكالات في الدين من ناحية، ومن ناحية أخرى فالغالب أن أهل الأهواء من أحرص الناس على ترويج أهوائهم والدعوة إليها بكل وسيلة، فيلبسون على الناس ويظهرون أنهم أهل تقوى وصلاح، بل لعل من أعظم أسباب الفتنة بأهل الأهواء ووجود أتباع لهم من غوغاء المسلمين وعامتهم أنهم يتظاهرون بالصلاح والاستقامة، وهذا من الابتلاء الذي ابتلى الله به العباد.
ولذلك إذا تأملنا أحوال الذين ظهرت على أيديهم البدع الكبرى التي ذكرها المؤلف هنا، نجد أن المؤسسين كلهم إلا النادر منهم تجدهم ممن يوصفون بالصلاح والاستقامة والورع والزهد والحرص على مصالح المسلمين والغيرة، والكلام عن الدين بعاطفة وبتأثير قوي، ابتداءً من الخوارج، والنبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بقوله: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم)، هؤلاء الخوارج الأولون، والخوارج الآخرون الذين يخرجون في آخر الزمان كذلك، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره: (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام)