للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التوفيق بين طلب العلم ومتطلبات الحياة]

السؤال

كيف يوفق طالب العلم بين طلب العلم ومتطلبات هذه الحياة التي قد تشغل عن طلب العلم، سواء كانت هذه الأشغال خاصة بالأهل مثلاً، أو الدراسة ومتابعتها إلى غير ذلك من الأشغال؟ وما هي الطريقة المثلى لحفظ الوقت؟

الجواب

نعم، الغريب أنه يوجد شعور عند كثير من الناس بأن اليوم كانوا أكثر مشاغل من السابقين، وهذا صحيح من وجه لكن ليس صحيحاً من وجه آخر، أما أن يكون هذا العصر ومتطلبات الحياة مشغلة عن العبادات وطلب العلم الشرعي وضرورات الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة فهذا غير صحيح، بل أنا أدعي أن هذا العصر توفرت فيه الوسائل التي تخدم هذه الأمور أكثر من ذي قبل.

صحيح أن التشاغل بالمغريات وبهرجة الحياة وانشغال القلب والذهن والخاطر موجود، أما الوقت فإن الإنسان الجاد يستطيع أن يهيئ لنفسه من الوقت للعبادة وطلب العلم الشرعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة أكثر مما يتهيأ للسابقين، لتوفر وسائل الحياة التي تخدم الإنسان.

ولنأخذ هذه المقارنة بين وسائل الحياة القديمة ووسائل الحياة الحديثة، فالإنسان يجد من وسائل النقل المريح وتهيئة الوقت ما لا يوجد في السابق، ولنضرب مثالاً بالرحلة لطلب العلم الشرعي.

الآن يستطيع الجاد أن يتابع درساً أسبوعياً في الرياض وهو في جدة، وكان في السابق إذا أراد أن يرحل إلى عالم يقطع ما بين الرياض وجدة في عشرة أيام على الأقل، ثم يجلس نصف ساعة يتلقى حديثاً ويمشي، وقد يسافر شهراً كاملاً في الأصل، ومع ذلك بارك الله في وقتهم وجهدهم.

كان طالب العلم في السابق يعد لنفسه الأكل ثلاث وجبات أو وجبتين في اليوم ويغسل ثيابه ويرتب كتبه ويقضي حوائج أهله الطويلة المدى، فقد كان يذهب للبحث عن ماء -أحياناً- فيظل نصف يوم كامل من أجل أن يجلب قربة ماء، أو يجلب القوت الضروري، وقد يسافر عشرة أيام أو عشرين يوماً لتوفير قوت شهر أو أقل من ذلك وهو طالب علم، اقرءوا السير تجدوا أكثر العلماء كانوا مشغولين بمشاغل الحياة ويكدون على أسرهم ومع ذلك تبحروا في العلم.

فإن المسألة مسألة شعور في النفس وانشغال خواطر الناس بجوانب الحياة الفتانة، أما من ناحية الوقت فإن طالب العلم الجاد يستطيع أن يوفر من الوقت ما لا يستطيعه السابقون، فالحمد لله أن كل شيء متوفر حتى عوامل الطقس، فقد كان طالب العلم في السابق إذا اشتد البرد لا يستطيع أن يتلقى العلم؛ لأنه ليس عنده تدفئة فيبحث عن وسيلة، وإذا اشتد الحر لا يستطيع أن يواصل، أما الآن إذا اشتد عليه شيء من هذه الأمور ذهب إلى الوسائل المريحة واستعمل المكيف.

وحتى لا أبعدكم كثيراً أخبركم عن أول نشأة في الدراسة النظامية في هذا البلد، فقد كان طلاب العلم أكثر تفوقاً وأكثر تبحراً بكثير من طلاب اليوم، مع أن وسائل الحياة غير متوفرة عندهم كاليوم، كان الواحد إذا خرج من الدراسة انشغل بإعداد الغداء إلى العصر، وقد يتوفر عنده وقت بين المغرب والعشاء، وبعد العشاء ينام مبكراً، ثم بعد صلاة الفجر يذهب إلى الدراسة فأين وقته.

وكان يحتاج إلى أن يغسل ثيابه، وإلى أن يعد الحاجات الضرورية وغيرها بنفسه، ومع ذلك كان أكثر تحصيلاً وأكثر علماً وأبرك في اغتنام الوقت، أما اليوم فإن الطالب قد هيئ له السكن ووسائل النقل وأهله مخدومون، فغاية ما يحتاج أن يتصل بهم بالهاتف: هل أنتم طيبون ويطمئن على صحتهم، ومع ذلك فمعاذيره كثيرة ورسوبه كثير، وتخلفه عن الدراسة كثير، وتخلفه عن الامتحان كثير، وتحصيله هين.

إذاً: المسألة مسألة شعور نفسي وعدم جدية في ضبط الوقت، ولو ضبط طالب العلم وقته في هذا العصر لوجد من الوقت الشيء الكثير ووجد عنده الفراغ الذي كان لا يوجد عند السابقين، هذا ما يظهر لي، والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>