[إحياء العلم الموسوعي عند طائفة من شباب المسلمين]
الأمر الآخر: وهو مما يجهله كثير من طلاب العلم فضلاً عن عامة الشباب وعامة الأمة، وهو ضرورة السعي إلى إحياء العلم الموسوعي عند طائفة من شباب المسلمين، وأقصد بالعلم الموسوعي العلم الشرعي المنوع وما يخدم العلم الشرعي، وما يخدم الأمة من علوم أخرى.
وذلك باصطفاء النابهين من أبنائنا والتعرف على مواهبهم والعناية بهم، بحيث يكونون علماء يتوسعون في العلوم الشرعية المتنوعة، وعلوم اللغة المتنوعة، والعلوم الأخرى المتنوعة التي تخدم الأمة، لاشك أن مناهج التعليم والمدارس تؤدي شيئاً من المطلوب، لكن لا تؤدي المطلوب كله؛ لأنها ربطت بوقت وبأنظمة معينة وجعلت على مستوى العموم من أبناء الأمة، الذكي والمتوسط وما دون المتوسط وما فوق الذكي.
فعلى هذا فإن مناهج التعليم تخرج أناساً عندهم استعداد للعلم ولا تخرج علماء، نعم قد تخرج متخصصين في بعض شعب الحياة، وبعض التخصصات الشرعية في شعب معينة لا تفي بالغرض الذي تحتاجه الأمة، ولو استمر الأمر على هذا الوضع بأن يتكل الناس على هذا الأسلوب فإنهم سيفاجئون يوماً من الأيام بأنهم فقدوا العلماء المتبحرين الموسوعيين الذين يلبون طلب الأمة ويشبعون رغباتها في حاجاتها الشرعية والعلمية.
ذلك أنه بحمد الله لا يزال عندنا بقية من العلماء والمشايخ الذين أخذوا العلم على أصوله الصحيحة؛ لكن لو استمر الأمر على ذلك ولم يستدرك، ستنقرض هذه الفئة ونخرج بفئات المتخصصين الذين ينفعون الأمة في تخصصات لكن ليس عندهم الشمول في النظر فقد نفاجأ بآراء عجيبة ومواقف شاذة واجتهادات بعيدة عن الصواب بسبب حجب كثير من المتعلمين على ضوء التخصصات عن العلوم الأخرى.
فتجد الآن ظواهر هذا قد بدأت، تجد عندنا من هو متخصص في الفقه تخصصاً دقيقاً وقد يشبع رغبة الأمة في هذا الجانب؛ لكنه قد يجهل بدهيات اللغة ويجهل بدهيات العقيدة وقد يجهل بدهيات الحديث والتفسير إلى غير ذلك، فلا يكون سوياً في مواقفه ولا في أحكامه ولا في اجتهاداته، بل ربما تخرج عنه المواقف الغريبة الشاذة.
وكذلك في العقيدة والحديث والتفسير، قد يخرج متخصص في التفسير لكنه ليس له علم بالحديث ولا الإيمان الضروري، وقد يخرج متخصص في الحديث لكنه غير ملم بالعقيدة والجوانب الأخرى وهكذا.
فاستمرار الاتكال على التخصصات قد يؤدي إلى أمور لا تحمد عقباها، وكما قلت لا يعني هذا أني أستهين بجوانب التخصصات فهي تخدم الأمة، لكن تحتاج إلى الضوابط والروابط؛ لأن العلماء الموسوعيين الذين يجمعون بين هذه التخصصات يكونون المرجع الشامل العام للأمة ولأصحاب التخصصات على نمط أئمة الهدى ومشايخنا الكبار الذين تعلموا سائر العلوم على حد سواء.
ولذا لابد من اعتماد برامج دقيقة في الدورات وحلق الذكر ومجالس العلم ودروس العلماء في تخريج طائفة من شباب الأمة يتعمقون في الفقه في الدين بسائر تخصصاته بحسب قدراتهم ومواهبهم، وذلك بالبدء على الطريقة التي بدأت تظهر الآن كثيراً في هذه البلاد، وهي تعليم الشباب العلوم الأساسية من خلال المتون، ثم معرفة من يتفوق منهم في هذه المتون وإعطائه أكبر قدر ممكن منها بحيث لا يتخصص في متن واحد أو متنين، بل يأخذ المتون الأساسية في القرآن وعلومه، وكذلك في الحديث وما يخدمه، ثم في العقيدة وما يخدمها، والفقه وما يخدمه، وفي اللغة وما يخدمها وهكذا.
ثم يتوسع حتى فيما يسمى بالعلوم الأدبية والإنسانية بقدر ما تحتاجه الأمة وبقدر ما يقدر عليه هو كما كان عليه أئمتنا، ثم يصطفى من هؤلاء الشباب من عندهم المقدرة والموهبة على المواصلة في الشروح، فيأخذ في كل علم الشرح الذي يناسب لهذا المتن الذي قرأه، ولا مانع أن يقرأ في وقت واحد خمسة شروح لخمسة علوم أساسية أو أكثر من ذلك، أو عشرة شروح لعشرة علوم أساسية.
ثم بعد ذلك يتوسع، فإذا وجد أنه موسوعي، بمعنى أن عنده من الذكاء والاستعداد ما يجعله يستوعب أكثر العلوم عني به حتى يصير مرجعاً للأمة هو ومن يشبهه ممن يسلكون هذا المنهج.
وقد لا يتمكن من التوسع الكامل فليتوسع فيما يستطيعه، فإذا وجد أنه لا يستطيع التوسع إلا في علمين أو ثلاثة فليتوسع في ذلك، لكن نكون قد ضمنا أنه فهم بدهيات العلوم الأخرى، وهذه مسألة ضرورية، حتى لا يأتينا إنسان حاذق في علم يجهل أساسيات علوم شرعية أخرى فتفقد الأمة الثقة فيه أو تثق فيه على غير بصيرة، فيضل ويضل، وهذا مما كان العلماء يحذرون منه.