[المسألة الثامنة: تقدير الهداية والضلال بناء على الأفعال]
المسألة الثامنة: قوله: (خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته).
هذه المسألة لها جانبان: جانب سيأتي الكلام عنه وهو أن الله عز وجل حينما أمر أمر بما يستطاع، وأمر بناء على البيان وإقامة الحجة، وكذلك النهي، وهذا سيأتي تفصيله.
لكن هناك جانب أول لهذه المسألة، وهو أن الله عز وجل حينما قدر هذه المقادير على العباد، خاصة ما يتعلق بالهداية والإضلال، قدر ذلك بناء على ما هم فاعلوه، بمعنى أن الله عز وجل علم بسابق علمه أن فلاناً من الناس سيعمل الخير ويجزى عليه، وعلم سبحانه بسابق علمه أن فلاناً من الناس سيعمل الشر ويجزى عليه.
كما أشار بهذه المسألة إلى المقادير الخاصة لأفراد العباد، وهو أن الله عز وجل قدر لكل إنسان أجله، ورزقه، وأفعاله، وهدايته أو ضلاله، وذلك عند نفخ الروح فيه، وكل ذلك راجع إلى حكمة الله عز وجل؛ لأن الخلق خلق الله، والله يفعل في خلقه ما يشاء.
ثم ذكر هذه الأدلة العامة الدالة على عموم المشيئة وعموم الإرادة، فقوله عز وجل: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]، بمعنى أنه لا ينبغي للعبد أن يسأل عن أفعال الله عز وجل، لا على سبيل الاعتراض، ولا على سبيل طلب المغيب، أو على سبيل طلب الكيفيات، قد يسأل بحثاً عن الحكمة أو بحثاً عن الجواب الذي يشكل في ذهنه، أما أن يسأل سؤال المتعنت، أو سؤال المشكك، أو سؤال المعترض على فعل الله عز وجل، أو سؤال الطالب للكيفية، أو المتطلع إلى الغيب، فهذا السؤال بدعة، بل هو ذنب عظيم، فالله عز وجل {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]، ومن أفعاله سبحانه كونه قدر هذه المقادير على العباد، وأضل من شاء، وهدى من شاء، كل ذلك من أفعال الله، فلا يسأل الله عز وجل لماذا أضل الكثيرين، ولماذا هدى المهتدين؛ لأن هذا أمر خارج عن دائرة التكليف كما سيأتي.
هذا الأمر خارج عن دائرة التكليف، والذي يدخل في دائرة التكليف أمر معلوم عند كل العقلاء، سيفصله المؤلف بعد قليل.
ومن ذلك قوله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩]، هذا دليل على عموم الخلق وعموم المشيئة، وعموم الإرادة.
وكذلك: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:٢]، هذه الآية دالة على عموم الإرادة والخلق والمشيئة، وكذلك قوله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:٢٢]، هذا دليل على عموم الخلق وسبق العلم والتقدير والمشيئة.
وكذلك قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:١٢٥]، يظن بعض الناس أن هذه الآية دليل على الإرادة الشرعية، وهي دليل على الإرادة الكونية والمشيئة العامة، ولا تدخل في الإرادة الشرعية؛ لأن الله عز وجل من حيث الإرادة الشرعية يريد الخير ويريد اليسر، ولا يريد الشر ولا العسر، يريد الهدى ولا يريد الضلال لكن الآية دليل في الإرادة العامة والمشيئة العامة.
كذلك في الحديث ذكر مسألة أنكرها كثير من القدرية، قال (وبالقدر خيره وشره) هذا فيه دليل على أن الله عز وجل خلق كل شيء وقدره، بما في ذلك الخير والشر، لا يخرج الشر عن تقدير الله كما تزعم طوائف من الوثنية القديمة، والقدرية التي قلدتها، وثنية كثير من الديانات الهندية واليونانية والمجوسية والصابئة وغيرها، بل وطوائف من النصارى يزعمون أن الله عز وجل لم يقدر الشر ولم يعلمه، ولم يكن داخلاً في مشيئته ولا في فعله سبحانه، وهذا خطأ؛ لأنهم خلطوا بين الإرادتين، حينما جاءتهم النصوص بأن الله لا يريد من عبده الكفر أو لا يريد منه المعصية، ظنوا أن معنى ذلك أنه لا يشاؤه ولا يقدره، والصحيح أنه بمعنى لا يرضاه ولا يحبه ولم يشرعه.
إذاً: القدر خيره وشره كله من الله من حيث المشيئة العامة والتقدير العام، أما من حيث فعل الإنسان فإن الشر إنما يفعله الإنسان بإرادته، فلذلك إذا زال عقل الإنسان لم يحاسب على أفعاله التي يفعلها وإن كانت شراً.