[ما يحاسب عليه الإنسان من الأفعال]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره).
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت).
ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره وفعل نواهيه، بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله الحجة علينا بإنزال الكتب وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥].
ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦].
وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦].
وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:١٧]، فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً يجازى على حسنه بالثواب وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره].
هذا المقطع هو ثمرة الكلام عن القدر، وفيه تفصيل المسألة التي أشرت إليها سابقاً، وهي مسألة الدائرة التي يحاسب عليها الإنسان في أمور المقادير والأفعال، وذلك أن مقادير العباد وأفعالهم على درجتين: الدرجة الأولى: غيبية لا دخل للإنسان فيها، لا من حيث العلم بها تفصيلاً وبكيفياتها، ولا من حيث الجزاء والتكليف ونحو ذلك مما يتعلق بالمكلفين.
فهذه الدرجة ينبغي أن لا يعلق بها الإنسان أفعاله لا من حيث فعل الخير والشر، ولا من حيث المصير والجزاء.
والدائرة الثانية هي محط النظر والتكليف، وهي التي ينبغي أن يتأملها الإنسان، ويتأمل نصيبه فيها، وما يجب عليه وما لا يجب أن يفعله.
أما الدائرة الأولى فهي أن الله عز وجل علم كل شيء، وكذلك أن الله كتب كل شيء، هذا أمر يجب أن يعلم ولا نتطلع إلى أكثر من العلم به جملة، فلا نتطلع إلى الكيفيات، ولا ننشئ على ذلك الأسئلة ولا الإيرادات، وليس لذلك علاقة مباشرة بتكليف العباد.
كذلك كون الله عز وجل هدى من شاء من عباده وأضل من شاء، وكون الله عز وجل كتب على كل إنسان أموره المتعلقة به من حيث عمره وأجله ورزقه وعمله على جهة التفصيل، كل ذلك يجب الإيمان به ولا نتطلع إلى أكثر من ذلك، وليعلم أن هذه الأمور لا ينبني على الإيمان بها إلا مجرد التسليم لله عز وجل، ومعرفة حكمته وعظمته وجلاله سبحانه، والاستدلال على عظيم أسمائه وصفاته وأفعاله.
وأيضاً لا يتطلب من الإنسان أكثر من أن يخضع لله عز وجل ويسلم التسليم المطلق؛ لأنها أمور قدرت وانتهت من ناحية، والناحية الثانية منها محجوبة، الإنسان لا يعرف تفاصيلها أو مصير الأفراد فيها.
أما الدائرة الثانية فهي التي فيها التكليف وقامت بها الحجة، وهي: أولاً: كون الله عز وجل أعطى المكلفين عقولاً يميزون فيها بين الخير والشر جملة، وبين الهدى والضلال جملة، وبين الحسن والقبيح جملة.
ثانياً: أن الله عز وجل أقام الحجة على العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتبيين الشرائع التي فيها الأوامر والنواهي والحلال والحرام، وفيها كيف يعبد الله الإنسانُ، وفيها الوعد والوعيد، ثم بعد ذلك الله عز وجل حينما بين ذلك كله أقدر الإنسان على فعل الخير وأمره به، ووعده عليه وعداً حسناً، وأقدره على فعل الشر ونهاه عنه وتوعده عليه.
والدائرة الأخيرة: أن كل عاقل يدرك هذه الأمور ويعرف أنه يستطيع أن يفعل الخير، ويستطيع أن يفعل الشر، فلذلك قال الله عز وجل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:٣].
وكذلك بين الله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٩]، بمعنى المشيئة التي تتعلق بأفعال العباد، لا المشيئة التي تتعدى إلى أفعال الله عز وجل.
وبناء على هذا فإن الإنسان إذا فكر في هذه الدائرة تفكير المتأمل المتعظ الباحث عن الحق، فإنه لا بد أن يهتدي، لكن إذا فكر في الدائرة الأولى وهي دائرة الغيب بأكثر مما ورد في النصوص؛ فإنه في الغالب لا يصل إلى نتيجة إلا مزيداً من الشكوك والأوهام، والأمور التي قد لا يتخلص منها.
فعلى هذا فإن على المسلم أن يفرق بين الدرجتين أو بين المرحلتين، أعني بين المسألة الغيبية التي مبناها على التسليم ولا نزيد عما جاء فيها من النصوص، والدرجة الثانية وهي مناط التأمل والتفكير والتدبر، ومحاولة الوصول إلى طريق السلامة، فإنه لا محيد للإنسان، الذي يريد النجاة أن يفكر في أن الله عز وجل أرسل الرسل، فيبحث عن الحكمة في ذلك، وعن الفائدة في ذلك، وأن الله أنزل الكتب، وبين الشرائع، وأحل الحلال وحرم الحرام، وأعطى الإنسان القدرة وهداه النجدين، وأن مصيره مرتبط بإرادته في هذه الأمور وبفعله، فلذلك أي إنسان لا يستطيع أن يختار الطريق المستقيم، إما لزوال