يرجع الفضل الأكبر في تقدم مكة وتفوقها في عهد قريش إلى قوة زعمائها وقدرتهم على حل المنافسات التي تنشأ بين الأفراد والعشائر للمصلحة العامة. وفي بلد تجاري مثل مكة كانت قوة العشيرة ونفوذها مرتبطةً إلى حد كبير بثروتها المادية. كما كانت أهمية الفرد في هذه البيئة تتوقف على ثروته وعلى نفوذ عشيرته وقوتها؛ لكن هذا لم يكن أمرًا مطلقًا، فالثروة والنفوذ العشائري لم يكن إلا بداية لظهور الفرد، فإن الثروة في بلد تجاري كانت عرضًا يمكن أن يزول بين عشية وضحاها في إحدى المضاربات التي كان يزاولها أهل مكة, ومن ثمَّ كان الأفراد -كما كانت العشائر- تتردد ما بين الغنى والفقر. أما العامل الرئيسي الذي يتوقف عليه تفوق الفرد ونفوذه فهو المواهب الشخصية والمزايا الذاتية، فذكاؤه التجاري والمالي ومهارته في معاملة العشائر والقبائل الأخرى، وقدرته على أن يحمل الآخرين في عشيرته وفي خارجها على أن يتقبلوا زعامته، كان المؤهل الحقيقي للزعامة في مكة.
وأول زعيم في قريش هو قصي بن كلاب الذي جمع قريشًا وأقامها في مكة وثبت وظائف مكة في يدها، ولعمله الجليل الذي قام به كان موضع الإجلال والتقدير طوال حياته وبعد مماته, فكان شريف أهل مكة لا ينازع فيها، وكانت داره هي دار الندوة وفيها كان يبرم أمر مكة كله، وكانت قريش تتيمن برأيه وتتبع أمره كالدين المتبع لا يعمل بغيره في حياته ولا بعد موته. وفي يده تجمعت كل مناصب مكة وحكمها,