للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الحالة الداخلية في مكة]

أما الحالة الداخلية في مكة فكانت نقط الضعف فيها أشد وأعمق، وكان التغلب عليها أكثر صعوبة مما كان عليه الأمر في يثرب.

وأول هذه الأمور، هو الهجرة وما ترتب عليها بالنسبة للوضع الداخلي في مكة؛ فقد هاجر كثير من المسلمين إلى الحبشة وإلى يثرب. ولم يكن كل من هاجر مغمورًا أو غير محسوس الأثر في قومه؛ وإنما كان كثير منهم صاحب نشاط وأثر محسوس في الحياة العامة، فحرمت مكة بخروجهم من عناصر طيبة كانت ذات قيمة كبيرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وأقفلت بالهجرة كثير من دور مكة وأظهر المكيون ألَمًا وحسرة على قفل هذه الدور. ثم إن كل بطن من البطون بل ربما كل أسرة من الأسر المكية قد تأثرت بهذه الهجرة التي قام بها المسلمون، فلم تبق أسرة إلا ومنها أب أو ابن أو أخ يعيش في غربته مهاجرًا، وليس أشد قسوة من فراق الأهل والأحبة، والشعور بما أصاب البيت من التفكك والتعادي. وخصوصًا في بيئة مثل البيئة العربية التي تقوم على الترابط القبلي وتحكمها نوازع العصبية، وفي مدينة مثل مكة تحرص أشد الحرص على وحدة القبيلة -قريش- فيها، وقد عمل ملأُ قريشٍ جاهدًا منذ أن صار أمر مكة إلى قريش على أن يحتفظ بوحدة القبيلة ويصونها من التفكك، ووقف بكل قوته في وجه كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إراقة الدماء أو الوقوع في الثارات بين البطون القرشية؛ لذلك اتهم أهل مكة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه سعى إلى تحطيم هذه الوحدة وفرق بين الناس، على أنه مهما يكن تعصب أهل مكة لوضعهم العام، فإن الشعور بالتأثم كان يملأ نفوس الأفراد؛ فإنه لا يفر الإنسان من وطنه وأهله إلا لظلم وقع به أو إرهاق عجز عن تحمله ولم يطق دفعه عن نفسه، وهكذا كان إحساس قريش بظلمها للمسلمين على الرغم من محاولتهم إلقاء التبعة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان هذا الشعور الداخلي من عوامل إضعاف الروح المعنوية، وقد أخذ يشتد مع الأيام.

ثم إن هناك المستضعفين من المسلمين الذين لم يستطيعوا فرارًا وحبسوا في مكة هؤلاء كانوا من غير شك يثيرون العطف ويعذبون الضمير العام في مكة، وفي الوقت نفسه كانت عواطفهم وأمانيهم مع إخوانهم المسلمين، وكانوا يدافعون عن تصرفات المسلمين في المدينة تجاه قريش، ويكونون دعاية لهم بين أهل مكة١. بل منهم من استطاع الفرار وجعل من نفسه ومن على شاكلته من المسلمين الفارين حربًا على المكيين؛ يقطعون طريقهم ويستولون على ما تصل إليه أيديهم من متاجرهم ويقتلون من يقدرون على قتله منهم٢.


١ ابن هشام ١/ ٢٤٢.
٢ نفسه ٣/ ٣٢٣.

<<  <   >  >>