لقد طبعت حياة الصحراء العربي على الحرية المطلقة إلى أقصى حدّ، والنفرة من القيود، وأصبح من طبع البدوي الذي ينتقل مع الكلأ والماء أن ينفر من الحضر؛ لأنه بطبيعته صار يكره الاستقرار في مكان واحد ويمل منه، وبديهي أن يؤثر هذه الطبيعة في نظريته إلى السياسة، وفي طريقة حربه؛ فهو مع كبير مهارته في حروب العصابات المبنية على الكر والفر، والتي مرن عليها في حياة الصحراء التي طبعته بطابع الحذر والاستعداد دائمًا، والتي كانت الغارة والغزو السريع المفاجئ من طبيعة الحياة فيها؛ فإنه لم يكن يستطيع المكوث في الحرب صابرًا حتى تنجلي عن نتيجة، ولا يظهر تعاونه مع بقية المحاربين على ما تقتضيه قوانين الجندية ونظمها، ثم إنه لا يبالي بترك موقعه في المعركة متى شاء ومتى ظن أن النصر قد تحقّق، ولو كان ذلكم مُخالفًا للأوامر الصادرة إليه من القيادة، وما حدث في موقعة أحد خير شاهد على ذلك، فإن الرماة الذين وضعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- خلف جيش المسلمين ليحموا ظهره، وأمرهم ألا يبرحوا أماكنهم مهما كانت الظروف إلا بأمره، ما كادوا يرون تقهقر جيش العدو حتى ظنوا أنه النصر وتركوا أماكنهم بالرغم من شدة الأوامر إليهم، وسببوا بذلك هزيمة للجيش.
ولما كان النظم العسكري يتطلب تدريبًا خاصًّا ومعيشة في ثكنة أو معسكرات وقتية للتدريب والتعليم أمدًا، والتثقيف في كيفية استعمال الأسلحة، وهي أمور لا يميل الأعرابي إليها، صار الأعرابي أقصر باعًا من الجندي النظاميّ في الحروب الكبيرة المنظمة
وأقل حيلةً منه، كما أن عدم احتماله صبرَ الحرب، وعدم تقيّده بأوامر رؤسائه إليه، جعله يخسر بعد نصر ويفرّ بعد هجوم
كما لم تدرك القيادات في الجاهلية معنى إحكام الحصار والصبر عليه، ولا معنى احتلال المدن بعد هزيمة الجيش المدافع، فلم يدرك أبو سفيان بن حرب وهو على قيادة جيش قريش يوم أحد قيمةَ نصره، فلم يدخلِ المدينة ويحتلها مع أن الفرصة كانت مواتيةً له بعد هزيمة المسلمين وتفكّك جيشهم، كما لم تستطع قريش وأحلافها الصبرَ على الحصار طويلًا في معركة الخندق، فتراجعت