في بداية القرن السادس الميلادي تبدو مكة ممسكة بزمام التجارة في بلاد العرب، تنعقد فيها وحولها أعظم أسواق العرب التجارية والأدبية في موسم الحج من كل عام، وقوافلها التجارية تجوب أطراف شبه الجزيرة العربية، تحمل التجارة بين الشرق والغرب، متجهة إلى اليمن وإلى الحبشة وإلى الشام وإلى العراق. وقد أتاح لها هذه الفرصة موقعها الممتاز في وسط طريق التجارة البري المار بالحجاز، وهو الطريق الوحيد الذي بقي آمنًا في ذلك الوقت١. وقيام البيت الحرام الذي انعقد إجماع العرب على تعظيمه والحج إليه، كما أنها بعدت عن منطقة التصارع الدولي لبعد موقعها؛ فنجت مما أصاب غيرها من أطراف الجزيرة العربية من الوقوع في مجال العراك القائم بين الشرق والغرب -الفرس والروم- في ذلك الوقت، ولبعد موقعها وصعوبة وصول الجيوش إليها احتفظت باستقلالها، كما احتفظت بطابعها العربي الأصيل، والحملة العسكرية الوحيدة التي وجهت إليها هي حملة الأحباش سنة ٥٧٠م, وقد باءت بالفشل، فعزز فشلها مركز مكة عند العرب جميعًا، وأصبحت تتمتع في المجال العربي بتوجيه عام، بعدما أصاب الممالك القائمة في أطراف الجزيرة من انهيار، ووقوعها جميعًا تحت سلطان الدول الكبرى. وقد أتاح لها هذا -كما أتاح لها موقفها الحيادي- أن تمثل دور الوسيط المحايد في نقل التجارة التي كانت ضرورية لكل من الطرفين المتنازعين, وبذلك تمتعت بظروف اقتصادية طيبة من مزاولتها للتجارة بشقيها, الداخلية والخارجية, وقد أجرى رجال مكة الترتيبات المفصلة التي تكفل لهم الانتفاع بهذا الظرف على أكمل وجه، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير، وجنوا من وراء ذلك ثروة كبيرة عوضتهم عن فقر البيئة التي تحيط بمكة، وجعلتهم يحتلون مركز الزعامة في الجزيرة العربية كلها في بداية القرن السابع الميلادي.