إذا كانت مدينة مكة قد تمتعت بالنظام المستقر وسادها جو من الهدوء والطمأنينة، نتيجة لوحدة السكان فيها، واجتماعهم على غاية واحدة هي رعاية الكعبة والقيام على تنظيم أمور التجارة الداخلية التي كانت أهم موارد الرزق في البلد الحرام؛ فإن مدينة يثرب لم تتوافر لها هذه الظروف التي ساعدت مكة على التنظيم والاستقرار، فإن سكان يثرب كانوا مختلفي الجنسية منهم العرب ومنهم اليهود، وكذلك لم تكن لهم غاية مشتركة يحرصون على الترابط بينهم من أجلها، فكانت حياتهم تقوم على تملك الأرض الزراعية واستثمارها. وفي مجتمع قبلي حيث لا توجد حكومة تقر القانون وتقهر الناس على التزامه، كانت القوة الذاتية سواء عن طريق الأفراد أو الجماعات هي الضمان الوحيد لحفظ الحقوق؛ ولذلك كان ما من شأنه أن يؤدي إلى الاستقرار، هو في ذاته عامل من عوامل التقلقل والنزاع.
فحياة الزراعة من طبيعتها أن تربط الناس بالأرض وتفرض عليها الاستقرار، ولكنها في مثل هذا المجتمع القبلي كانت مثارًا للنزاع الدائم، فقد كان كل فريق يسعى إلى أن تكون في يده أخصب البقاع وأغناها، وهذا مما يؤدي إلى التطلع إلى ما في يد الغير محاولة الحصول عليه، ولما لم يكن هناك قانون غير القوة ينظم العلاقة بين الناس، كان السعي عن طريقها هو السبيل المألوف لتوسيع الأملاك والحصول على أفضل البقاع الزراعية.
وإذا كانت القبائل التي تتالت في السيطرة على مكة قد استطاعت أن تجلي غيرها عنها وتنفرد بشئونها؛ فإن ذلك كان أمرًا ميسورًا إلى حد ما، لأنه لم تكن هناك أرض يرى الناس حياتهم ملتصقة بها، فالتاجر مع حبه للهدوء ورغبته في السلام وسعيه