للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى حسن العلاقة مع غيره ليقوم على تجارته في جو من الأمن والسلام، لا يرى ضرورة للاستماتة من أجل بقعة معينة لا يتوافر له فيها جو السلام، أما في بلد يعتمد سكانه على الزراعة فإن إجلاء الناس عن أرض يرون معاشهم متصلًا بها أمر بالغ الصعوبة تقوم من أجله الحروب وتسفك الدماء، ولا يقبله الناس إلا أمام قوة لا يرون سبيلًا إلى قهرها.

لذلك اختلفت الخصائص العامة في مكة عنها في المدينة، وحيث حظيت الأولى بنوع من التماسك والنظام، وانقسمت الثانية إلى معسكرين متعاديين دائمًا، يترقب كل فريق الفرصة لقهر الآخر والحصول على ما في يده أو على خير ما في يده، على أن كلًا من المعسكرين لم يسلم من النزاع الداخلي لنفس هذه الغاية، ولم يربط بين الوحدات في المعسكر الواحد إلا ما كان يربطها من تقاليد العصبية القبلية، والشعور بأن الفرد وحده عاجز عن حماية نفسه ضد الآخرين، وحتى رابطة الدم نفسها فشلت في أن تكون رابطًا يؤلف بين الناس. ومن هنا أصبح القتل وسفك الدم شيئًا مألوفًا، ولم يكن أحد يجرؤ على الخروج من حيه دون أن يعرض نفسه للخطر١، وساد المدينة جو من عدم الأمن جعل الحياة فيها أمرًا عسيرًا.

ومن أجل المحافظة على النفس والمال اتجه ميل السكان بصفة عامة إلى إقامة الحصون والآطام؛ للاحتماء بها عند الحاجة، حتى أصبحت المدينة ممتلئة بهذه الحصون إلى درجة لا تكاد توجد في مدينة أخرى؛ فقد ذكر بعض المؤرخين أنه كان لليهود وحدهم تسعة وخمسون أطمًا٢ وأن العرب لم يكونوا أقل منهم رغبة في بناء الآطام حتى لقد ذكروا أنه كان لبطن واحد من بطونهم تسعة عشرة أطمًا٣.

ومع ذلك فقد ظلت الحياة القبلية تفرض نفسها بصورة واضحة في يثرب، فلم تكن حياة البطون اليثربية تتميز بشيء عن حياة القبائل البدوية في الجزيرة العربية إلا


١ يروي صاحب الأغاني أن الأوس والخزرج حين اصطلحوا بعد حرب سمير اصطلحوا بعهد وميثاق ألا يقتل رجل في داره ومعقله- والمعاقل: النخل- فإذا خرج رجل من داره أو معقله فلا دية ولا عقل، الأغاني ٣/ ٤٢.
٢ السمهودي ١/ ١١٦.
٣ نفسه ١/ ١٤٥.

<<  <   >  >>