للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تجارتها الداخلية، فأجرت من الترتيبات ما يكفل لها ذلك، وابتدعت من النظم والتقاليد ما يحقق لها السيادة الأدبية والنفع المادي.

وأول هذه الترتيبات ما نظمته من السقاية والرفادة؛ فمنطقة مكة حارة شحيحة المياه، وهي لكي تستقبل عددًا كبيرًا من الحجاج لا بد أن توفر فيها المياه بحالة منظمة؛ حتى لا يلقى الحاج من قلة الماء ما يضره إلى الخروج منها أو العزوف عن القدوم إليها؛ لذلك جعلت قريش من عملية توفير الماء للحجاج في موسم الحج وظيفة هامة، بل جعلتها أهم الوظائف في مكة ووكلتها إلى أعظم البيوت القرشية، وقلنا: إن هذه المهمة لا بد كانت موجودة قبل قريش، ولكنها نالت عناية كبيرة وصارت عملًا رسميًّا بعد استيلاء قريش على أمر مكة. فقد جعلها قصي بن كلاب وظيفة مقررة وتولاها بنفسه، وقام بحفر الآبار في منطقة مكة، كما عملت بطون قريش على الإكثار من حفر الآبار لتواجه الزيادة المطردة في عدد الحجيج الوافد على الكعبة١، وأصبحت السقاية من الوظائف التي تفاخر بها وتراها من أجل الأعمال، إلى جانب عمارة البيت الحرام والقيام على سدانته وتنظيفه وإعداده للزائرين، حتى لقد نوه القرآن الكريم بذلك فقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة] . كما جعل قصي استضافة الحاج وظيفة هامة أيضًا، وقرر على قريش خرجًا يخرجونه من أموالهم يدفعونه إليه -ثم يدفعونه إلى متولي هذه المهمة بعده- يصنع به طعامًا لفقراء الحجاج؛ استضافة لهم على أنهم ضيفان بيت الله الحرام، وهذا أمر هام في بيئة فقيرة كبيئة الصحراء، وكثير من الحجاج يقدم من بلاد بعيدة ويكابد سفرًا طويلًا يصعب معه حمل الزاد، وقد حافظت قريش على هذه الوظيفة ووكلتها إلى البطون القوية القادرة عليها؛ إذ إن صاحب الرفادة يتحمل جزءًا من ماله الخاص؛ لذلك كان يعهد بالقيام بها إلى الرجال الأغنياء٢، ومهمة الرفادة جلبت لقريش كثيرًا من الفوائد الأدبية والمادية، فالمؤاكلة تعتبر عقد جوار وحلف عند العرب، فوق أن الضيافة وإطعام الطعام كان يعتبر أكبر المحامد في المجتمع العربي، وبإطعام الحاج من كافة قبائل أنحاء الجزيرة العربية تكون قريش كأنما عقدت جوارًا مع هذه القبائل، فوق أنها


١ ابن هشام ١/ ١٥٩- ١٦٢.
٢ ابن هشام ١/ ١٤٠. ابن سعد ١/ ٥٨.

<<  <   >  >>