وسيلة لإعلان الناس براءة الله ورسوله من المشركين، فأعلن هذا للناس عن طريق أبي بكر في رواية، وعن طريق علي بن أبي طالب الذي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- خصيصًا لهذا الإعلان في رواية أخرى. ويستأنس من كل ذلك أن يوم عرفات هو يوم الحج الأكبر، وأن هذا اليوم كان يجتمع فيه الناس من كل جهة وكل قبيل، وأنه كان فرصة لقضاء أمور هامة وإعلانها، وأن ما جرى عليه الحج الإسلامي كان استمرارًا لما كان يجري عليه العرب من قبل.
وحينما يعود الحجاج من عرفات يأتون إلى مكان يعرف اليوم بالمزدلفة, وكانوا يسمونه جمْعًا وهو المكان الذي سماه القرآن المشعر الحرام١, فيتوقفون عنده إلى الفجر ثم يفيضون منه إلى منى، فقد كانت هناك إفاضتان: إحداهما من عرفات والأخرى من المشعر الحرام، والإفاضة كانت تسمى إجازة، ومعناها أن يجيزهم الرئيس من مغادرة المكان إلى مكان آخر، وكان هناك بعض البطون هم أصحاب الحق في هذه الإجازة؛ بحيث لا يفيض الناس إلا إذا أفاض رئيس هذا البطن، وقد كان يقصد بتوقف الناس عند المشعر الحرام إشعارهم بأنهم قد انتهوا من الواجب الأساسي للحج، وأصبحوا بذلك حجاجًا، وأن لهم الحق في التعييد بعده، وفعلًا فإن الناس بمجرد إفاضتهم من المزدلفة إلى منى يصبحون معيدين عيد الأضحى.
وكان للعرب تقليد آخر في منى، وهو عقد مجالس المفاخرة بعد أن يكونوا قد انتهوا من مناسك الحج، وقد ذكر المفسرون هذا التقليد في سياق تفسير الآية القرآنية:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة] وقالوا: إن الحجاج كانوا بعد قضاء مناسكهم يعقدون المجالس في منى ليتناشدوا الأشعار ويعددوا مفاخر الآباء والقبائل، والآية تلهم هذا الذي تناقلته الروايات، ولا سيما وأيام منى أيام عيد وأكل وشرب وراحة، فأمرت الآية بذكر الله والتحدث بنعمه بدلًا من المفاخرات الجاهلية التي تزيد من قوة العصبية الضيقة، التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بحكم دعوته يهدف إلى
١ انظر سورة البقرة الآية ١٩٨. تفسير الطبري ٤/ ١٧٥- ١٨٠.