للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان من الضروري أن تفرض هدنة يوقف فيها القتال ويأمن الناس فيها على أنفسهم, وتتاح لهم فيها فرصة الانتقال والاجتماع والتعارف للمتاجرة والمعاملة والتبادل الأدبي والمادي، وحل المشكلات المعقدة التي تحتاج إلى أمن واطمئنان لحلها. وقد بدأت حركة تجمع وترابط بين القبائل قبيل الإسلام، وبدأت تتكون المجموعات الكبرى. وهذا التحالف بين القبائل نوع من التعبير عن إحساس القبائل بأنها لا تستطيع أن تعيش في مجالها الضيق، وأنها محتاجة إلى غيرها من القبائل؛ تتحالف معها وتؤاخيها وتربط مصيرها بمصيرها، وكذلك سئم العرب الحروب القبلية، وكانت هدنة الأشهر الحرم استجابة لهذه الرغبة التي بدت بين القبائل. وحالة الهدنة تقتضي تقليل فرصة القتال والتشاحن, وبالتالي إيجاد فرصة أوسع للتآلف والتجمع, وكلما ازدادت هذه الفرصة كان ذلك في مصلحة المجتمع العربي. والراجح أن بدعة النسيء التي ابتدعها العرب كانت لهذا الغرض وهو تطويل مدة السلام١، فإذا لاحظنا أن في أسماء الشهور العربية ما يوحي بأنها وضعت في وقت معين، فمثلًا رمضان أخذ اسمه من الرمضاء٢ وهي الحجارة الحامية من حر الشمس، كان معنى ذلك أنه كان في الصيف, وأن شهري ربيع الأول والثاني ما يوحي بأنهما كانا من أشهر الربيع. وبلاد العرب بلاد حارة يصعب فيها الانتقال والقتال في أشهر الصيف ٣، فإذا


١ انظر السهيلي ١/ ٤٢ وهو يقدر المدة التي بدأ فيها النساء بحوالي ٧٠ سنة قبل ظهور الإسلام -المسعودي: مروج الذهب ٧/ ٢٠٥.
٢ المصباح مادة رم ض، ص ٣٢٥, وروزة ص ٢١٣.
٣ التوبة ٨١- ٨٢ "وقالوا لا تنفروا في الحر". انظر ابن هشام ٤/ ٩٦٩، وما بعدها ابن سعد ٣/ ٢١٨ عن غزوة تبوك وما لقي المسلمون فيها من شدة بسبب الحر وكيف تخلف بعضهم عن القتال وكيف تردد الناس, البتنوني: الرحلة الحجازية ١٩٧ "والعرب كانت تنسيء الشهور حتى توافق بين السنين القمرية والشمسية فكانوا يؤخرون سنتهم كل ثلاث سنين شهرًا، وكان السبب في ذلك جعل زمن الحج ثابتًا في فصل من فصول السنة كأحد الربيعين حتى يتيسر لهم القيام به في غير وقت الحر والبرد الشديدين، وخصوصًا في الزمن الذي تتوفر فيه مادتهم التي يتجرون بها من أصواف وأوبار وسمن ودهن. وهذا كله لا يتوفر على الدوام في شهر مخصوص من السنة القمرية" ومما يسند هذا الرأي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال حين حرم بدعة النسيء: "إن الزمان قد استدار كهيئته" وكان ذلك سنة ١٠ هـ , وفيها كانت شهور الحج أشهر الربيع "انظر التوفيقات الإلهامية سنة ١٠هـ".

<<  <   >  >>