للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومهما تكن أسفار الحجازيين البرية أو البحرية، ومهما يكن ما يجلبونه من الخارج؛ فليس من المعقول أن يجلبوا كل ما يحتاجون إليه من هذه الأدوات والحاجيات مصنوعًا جاهزًا؛ بل لا بد أن يصنع بعضها إن لم يكن معظمها محليًّا؛ إذ لا يمكن أن يكونوا أو يظلوا عيالًا على الخارج في هذه المواد الكثيرة التي يستعمل كثير منها استعمالًا عامًّا ويوميًّا، ولا سيما وأن المواصلات بينهم وبين البلاد التي تقدمت عليهم في الحضارة، والتي يمكن أن يجلبوا منها احتياجاتهم -غير سهلة ولا قريبة-. كما أنه يوجد من الأشياء ما لا يمكن جلبه من الخارج، كأعمال البناء والنحت والنجارة؛ وإذن فلا بد من وجود طبقة من الصناع والعمال في المدن الحجازية يقومون بكثير من هذه الأعمال الصناعية، وأن أهل هذه المدن، وإن اعتادوا أن يجلبوا شيئًا مما يستعملونه من الخارج، فإن هذا الشيء كان مقصورًا على ما لا تستطيع البيئة المحلية إنتاجه، أو لا تستطيع إجادته، وخصوصًا حاجيات الترف الكمالية الدقيقة الصنع، من أدوات الزينة والزخارف والحرير والأواني الدقيقة وبعض أنواع الأسلحة والنسيج.

ولقد كان في مكة وفي سائر المدن الحجازية جاليات أجنبية يهودية ونصرانية، سورية ومصرية وحبشية ورومية وعراقية. ومن الراجح أن هؤلاء الأجانب كانوا يقومون بكثير من هذه الأعمال الصناعية، وأنهم كانوا نواة ومعلمين لطبقات من الصناع المحليين، وأن منهم من كان يعمل لحسابه الخاص، كما كان الحال في يهود يثرب، ومنهم من كان يعمل لحساب سادته١. وقد أشار أصحاب السير إلى عامل رومي استخدم في بناء الكعبة عند تجديدها، كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وجد في الكعبة صورًا ورسومًا للملائكة والأنبياء، لا بد أنها كانت من صنع أمثال هذا العامل الرومي ومن عمل معه من بني جنسه من النصارى، كما وجدَ بها تمثالًا لحمامة من الخشب؛ الأمر الذي يدل عل وجود صناع يتقنون هذه الأعمال في مكة، وأنهم لم يكونوا من العرب ولكنهم كانوا من الرقيق أو من الموالي الأجانب ٢. كما كان بعض النساء يشتغلن بالأعمال الصناعية وبخاصة صناعة الغزل والنسيج٣.


١ الأغاني ١/ ٦٥.
٢ الطبري ٢/ ٣٩- ٤٠.
٣ البخاري ٣/ ٦١.

<<  <   >  >>