للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جانب هذه المفاهيم الجديدة التي جاء بها كان معلمًا للأخلاق، يريد أن يثني الناس عن عاداتهم المرذولة القديمة، ويريد أن يهديهم إلى أخلاق كريمة سميت فيما بعد بالأخلاق الإسلامية. وفي القرآن آيات كثيرة تدل على هذا الدور الأخلاقي الذي قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- اليتيم. فالناس قد ألهاهم التكاثر، يجمع أحدهم المال ويعده عدًّا، لا يكرمون ولا يحاضون على طعام المسكين، يأكلون التراث أكلًا لمًّا، ويحبون المال حبًّا جمًّا١. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يستنكر هذه المادية التي تقتل الروح وتميت نوازع الخير، ويدعوهم إلى البر والتقوى والإنصات إلى النفس اللوامة. ونستيطع أن نتصور المثل الأعلى الذي دعا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قرأنا الآيات من صدر سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون] .

هذه هي المسائل الرئيسية التي دعا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس، فكانت غريبة عليهم حتى قالوا كما عبر القرآن {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص] ٢. {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [ص] . هذا يؤكد لنا أن هذه الأفكار كانت جديدة غير معروفة في المجتمع العربي، وغير معروفة كذلك في الأديان الأخرى، ومن غير شك كان العرب يخالطون أصحاب الديانات الأخرى، بل منهم من دخل فيها، فمنهم تهود، ومنهم من تنصر، وكان أهل مكة يخالطون أهل الديانات في رحلاتهم التجارية نحو الشمال والجنوب ويتعاملون معهم، ومن غير شك عرف المكيون شيئًا عن مبادئ هذه الديانات٣، بل منهم من قرأ الكتب وعلم أهل الكتاب، فلو كانت هذه الأفكار الإسلامية كما صورناها موجودة عند أهل الكتاب لما قال هؤلاء المكيون مقالتهم التي سجلها القرآن، ولو كانت مقالتهم تخالف الواقع لرد القرآن بتكذيبهم وبتأكيد وجود هذه الأفكار، الأمر الذي يقطع بما نتجه إليه٤.


١ انظر سورة الفجر، التكاثر.
٢ انظر سورة المؤمنون.
٣ انظر سورة ص ٧.
٤ ابن كثير ٣/ ٨٨-٨٩. ابن هشام ١/ ٣٨٣.

<<  <   >  >>