للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لكنهم ما لبثوا أن أدركوا أن الأمر أخطر مما تصوروا؛ فإن محمدًا يكتسب كل يوم أصحابًا من رجالهم ومواليهم يتابعونه ويؤمنون به نبيًّا ورسولًا، وأن هؤلاء الأصحاب ينشطون معه للدعوة لدينه الجديد١ ثم يرونه يجمع عشيرته من بني هاشم، ويدعوهم إلى الإيمان بما يقول، ويحاول أن يجعل منهم كتلة حوله، ويرون عمه أبا طالب -زعيم البيت الهاشمي- وإن كان لم يتابعه على ما يدعو إليه، فهو يشجعه ويقف إلى جانبه٢؛ ويرون محمدًا يكثر الاجتماع بأصحابه الذين آمنوا به وهم رجال من كل بطون القرشية وهو يتعرض للأصنام يسبها ولقريش يسفه أحلامها ويكفر آباءها.

وإذن فهذا أمر يراد بقريش لا يصح السكوت عليه. ولما كان رجال الملأ يدركون قيمة العصبية ويخشون خطرها لو تعرضوا لمحمد بالسوء؛ فقد لجئوا إلى أبي طالب يطلبون إليه أن يتدخل لمنع بن أخيه من التعرض بالمهانة لمقدسات القبيلة وحرماتها، فهم إن صبروا على ما يقول به ويحول أبناءهم إليه، فهم لا يطيقون صبرًا على شتم الآلهة وتسفيه الأحلام وتضليل الآباء. ويلاين أبو طالب قومه ويردهم بالحسنى، ولكنه لا يمنع محمدًا، ولا يتوقف محمدًا عما أخذ فيه. ويعاود رجال الملأ الطلب ويشفعون طلبهم بالعروض، فهم يعرضون أن يتركوا محمدًا وما يدعو إليه على أن لا يتعرض لسب الآلهة وشتم الآباء، ثم يعرضون أن يقدموا رجلًا من خير أبنائهم بديلًا عن محمد -صلى الله عليه وسلم- يتبناه أبو طالب على أن يسلم إليهم محمدًا ليقتلوه إن كان قد عجز عن رده؛ فإنه يدمر وحدة القبيلة ويهدد مكانتها. ويستنكر أبو طالب هذا العرض المنكر؛ فما كان ليسلمهم ابنه ليقتلوه، ويأخذ ابنهم يغذوه٣ لهم، ولكنه يدعو إليه محمدًا يعرض عليه ما طلبت قريش، ويطلب منه أن يبقي عليه وعلى نفسه، ولا يحمله من الأمر ما لا يطيق من عداوة القوم. وظن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن عمه قد بدا له فيه بداه، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه؛ فقال في إصرار وإباء: "يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". وهزت كلمة الابن نفس الشيخ الذي لم يسلم


١ نفسه ١/ ١٨٥.
٢ نفسه ١٨٧- ١٨٨.
٣ الطبري ٢٢/ ٦٧، اليعقوبي ٢/ ١٨.

<<  <   >  >>