للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لم يلجأ المهاجرون إلى قوم من العرب في الجزيرة العربية؛ لأن القبائل العربية كانت مرتبطة بقريش ارتباطًا تجاريًّا ودينيًّا قويًّا، وكان لبعضها محالفات وعقود مع قريش؛ وهي لذلك حريصة على حسن العلاقة مع قريش حرصها على مصالحها المادية؛ فلم تكن لذلك تستطيع إيواء الخارجين عليها، ثم هي تؤمن بزعامة قريش وتخضع لتشريعها الديني، وقد تجلى موقف القبائل واضحًا بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب، فقد اتخذت جانب قريش في صراعها ضد يثرب وتحرشت بالمسلمين وحاربتهم في صفوف قريش.

أما اليمن فكانت الأحوال فيها غير مستقرة، والخلافات الداخلية تمزقها إلى جانب خضوعها للنفوذ الفارسي، ووقوعها في المجال التصارع الدولي الذي تعدى السياسة إلى الدين، فكان التنافس شديدًا بين المسيحية واليهودية فيها، وهي بذلك غير صالحة لأن يجد فيها المهاجرون المأوى الأمين. وكذلك كانت الحال في مملكة الحيرة ومملكة غسان.

كما لم تكن مدن الحجاز مهيأة في ذلك الوقت لقبول هجرة المسلمين إليها؛ فيثرب كانت تمزقها الخلافات الداخلية، ويقوم الصراع فيها على أشده بين قبائلها، هذا إلى علاقات قريش التجارية المتينة مع بطونها؛ سواء من اليهود أو من الأوس والخزرج. وخيبر كانت مدينة يهودية، وكانت صلات اليهود عامة طيبة مع قريش، فضلًا عن أن اليهود كانوا منصرفين إلى مصالحهم راغبين عن الدخول في عداء مع القبائل العربية.

وإذن فقد كانت بلاد الحبشة هي أقرب إقليم هادئ إلى مكة يمكن أن يجد المهاجرون فيه الأمن على حياتهم، كما يمكن أن يحصلوا فيه على معاشهم فقد كانت الحبشة متجرًا لقريش ووجهًا، وكان القرشيون يغشونها للتجارة فهم على معرفة بها وعلى خبرة بمزاولة العمل فيها. كما كانت تكمن وراء الهجرة إليها حكمة سياسية؛ فإن الحبشة كانت تطمع منذ أجيال في فتح الأقاليم العربية، وكان ملوك الحبشة يراقبون من أجل ذلك أحوال الجزيرة مراقبة شديدة، وقد سبق للحبشة أن أرسلت حملة لفتح مكة، ومع أن الحملة باءت بالفشل، ومع أن الحبشة خرجت من الجزيرة العربية كلها إلى أن الصراع الدولي على امتلاك طرق التجارة لم ينته بعد.

فالهجرة إلى الحبشة تؤدي إلى غرضين: الغرض الأول أن المهاجرين يلقون ترحيبًا من ملك الحبشة؛ أملًا في أن يتمكن بمساعدتهم من التدخل في شئون مكة الداخلية، وفعلًا لقي المهاجرون احتفاء وحسن معاملة من النجاشي١.


١. ابن سعد ١/ ١٨٩.

<<  <   >  >>