للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمكث الأوس والخزرج ما شاء الله: ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم جوارًا وحلفًا يأمن به بعضهم من بعض ويمتنعون به ممن سواهم فتعاقدوا وتحالفوا، واشتركوا وتعاملوا؛ فلم يزالوا على ذلك زمانًا طويلًا، وأمرت الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد؛ فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي بينهم. وكانت قريظة والنضير أعد وأكثر، وكان يقال لهما الكاهنان وبنو الصريح، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، حتى نجم منهم مالك بن العجلان من بني سالم بن عوف بن الخزرج وسوده الحيان والأوس والخزرج١.

ويؤخذ من هذه الرواية أن الأوس والخزرج قنعوا بوضعهم في أول الأمر؛ لأنهم إنما كان همهم أن يستقروا ويجدوا لهم معاشًا. ثم أخذوا بعد ذلك يعملون على تثبيت مركزهم؛ فسعوا إلى عقد الحلف بينهم وبين اليهود ليأمنوا على أنفسهم، وليستطيعوا توسعة دائرة أعمالهم، وقد أتاح لهم الحلف أن يشاركوا اليهود ويتعاملوا معهم، فازدادت ثروتهم وكثر عددهم وأخذوا في تنظيم أنفسهم. وتنبهت اليهود إلى ما طرأ على حلفائهم هؤلاء وأحسوا بخطورتهم وأدركوا أن الحلف إنما يسير إلى مصلحة جيرانهم، فخافوا أن يتطور الأمر إلى أن يغلبوهم على دورهم، فغيروا مسلكهم نحوهم وأساءوا معاملتهم وانتهوا إلى قطع الحلف معهم، عند ذلك ظهرت الفتن والعدوات بين الطرفين، ولما كانت اليهود أعد وأكثر فإن الأوس والخزرج أقاموا في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، ولم يكن أمامهم إلا أن يبحثوا لهم عن حليف ينصرهم إن ثارت الثائرة بينهم وبين اليهود. وكان طبيعيًّا أن يتجه تفكيرهم أول ما يتجه إلى قوم تربطهم بهم رابطة قرابة ونسب، ويكونوا لهم من القوة ما يمكنهم من الانتصار بهم على خصومهم، فاتجهوا إلى الغساسنة الذين كانوا مثلهم فرع من الأزد؛ فهم أبناء عمومة فضلًَا عن رابطة الخئولة، فقد كانت أم الأوس والخزرج قيلة من غسان كما يقرر النسابون، وكان الغساسنة قد علا أمرهم بالشام وكوّنوا لهم مملكة بها. ويتحدث المؤرخون عن اتصال مالك بن العجلان الخزرجي بالغساسنة، فيقولون: إن مالك بن العجلان رحل إلى أبي جبيلة الغساني، وهو يومئذ ملك غسان، فسأله عن قومه وعن منزلتهم فأخبره بحالهم وضيق معاشهم، فقال له أبو جبيلة: والله ما نزل قوم منا بلدًا


١ السمهودي ١/ ١٢٥- ١٢٦.

<<  <   >  >>