للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على طريق تجارتها إلى الشام، ولقد قدرت قريش مقدار الخطر الذي يتهددها من وراء هجرة المسلمين إلى يثرب، ومبايعة أهل المدينة للنبي -صلى الله عليه وسلم- واستشعرت ما سيترتب على هذا الوضع من نتائج ستجر إلى الحرب بين البلدين بمجرد أن علمت ببيعة العقبة الكبرى؛ فقد ذهب رجال قريش إلى منازل أهل المدينة بمنى في صبيحة يوم البيعة يقولون لهم: "يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم"١، وقد تحرشوا فعلًا بأهل المدينة حين تأكد لهم الخبر وقبضوا على أحدهم وهو سعد بن عبادة الخزرجي، وكادوا يفتكون به لولا أن منعه بعض سادة قريش لجوار بينه وبينهم٢. كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك هذا؛ ولذلك وضع نصًّا خاصًّا بقريش في الصحيفة واعتبرها عدو المدينة الأول، وحرم على أهل الصحيفة أن يجير مالًا لقريش ولا نفسًا، وكان يقصد من وراء هذا النص إلى إفهام قريش أن مكة لا تستطيع أن تمر بتجاراتها إلا إذا هادنت الدولة الجديدة واعترفت بالوضع الجديد.

وقد بدأت سرايا المدينة فعلًا تتجه إلى الطرق الرئيسية التي تمر منها قريش بتجاراتها إلى الشام. وتواجه قوافل قريش بقصد إفهامها حقيقة الموقف، وإن كانت لم تصادر هذه القوافل أو تتحرش بها. كما أنها أخذت تتصل بالقبائل الضاربة على جنبات هذه الطرق وتعقد معها أحلافًا، وبذلك تحرم قريش من الاستعانة بهذه القبائل أو اللجوء بقوافلها إلى حمايتها إذا هددت بالاعتداء عليها أو مصادرتها. ولم يزد الأمر عن هذه المظاهرات العسكرية طوال عشرة أشهر من بدء تسيير دوريات المدينة وسراياها، وقد ردت قريش من جانبها بتعزيز الحراسة على قوافلها وتسيير دوريات بأعداد أكبر من قوة المسلمين، وكانت الدوريات تتقابل وتتواقف دون أن يحدث بينها قتال٣.

لكن سرية كان يقودها أحد المهاجرين هو عبد الله بن جَحْش خرجت على رأس سبعة عشر شهرًا من مهاجر النبي-صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب واتجهت إلى مكان يعرف ببطن نخلة بين مكة والطائف، وكانت مهمة هذه السرية استطلاع حال قريش والوقوف على أخبارها، ولم يكن من أغراضها القتال، إذ إن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجال السرية خلا من


١ ابن هشام ٢/ ٥٧.
٢ نفسه ٥٨/ ٥٩.
٣ ابن هشام ٢/ ٢٢٤، ٢٣٠.

<<  <   >  >>